ثمة فكرة تسود الأوساط الاقتصادية وعلم الاجتماع، وأنا أود المساعدة على تبديدها، إذ تقول هذه الفكرة إن علم الاجتماع هو مشروع ايديولوجي متأصل الى حد، كبير ويتعين على الباحثين تضمين طرقهم ووسائل عملهم أحكاماً قيمة.

Ad

وتوجد التباينات المتعلقة بهذه المجادلة في جناحي اليمين واليسار على حد سواء، وعلى سبيل المثال فإن ورس روبرتس، وهو باحث في معهد هوفر (مركز تفكير محافظ) كتب مراراً يقول إن المجادلات مدفوعة بصورة حتمية بعوامل ايديولوجية، وهو يرى أن خبراء الاقتصاد في جناح اليسار يتوصلون بشكل دائم إلى استنتاجات تدعم المزيد من التدخل الحكومي في أي وضع أو حالة، بينما نظراؤهم في جناح اليمين سيستعرضون المعلومات ذاتها، ويتوصلون إلى استنتاجات معاكسة، ويقول روبرتس إنه نظراً لأن الايديولوجية تحكم المجادلات فإن علينا ببساطة الاقرار بذلك في كل الأوقات.

أصداء مماثلة من اليسار

وتبرز أصداء مماثلة لهذه المواقف في بعض زوايا اليسار، إذ تشير بعض مواقع الاقتصاد البريطانية الى ان الاستنتاجات الاقتصادية تكون مثقلة دائماً بأحكام تنطوي على قيمة، وعلى سبيل المثال فإن الاقتصاديين عندما يكتبون عن الكفاءة فإنهم يرون فيها حصيلة مرغوبة، وكذلك فإن النظر الى الفعالية بدلاً من بعض اجراءات الرعاية سوف يدفع الاقتصاديين الى معارضة خطة اعادة توزيع الضرائب التي تجعل الاقتصاد الى حد ما أقل كفاءة، بينما تعمل على تحسين وضع الشريحة الأكثر سوءاً في المجتمع، وقد غدت المجادلة أكثر جلاء على مواقع التواصل الاجتماعي.

هذه فكرة مغرية، وقد تأثر خبراء الاقتصاد بصورة عملية الى درجة أكثر أو أقل بقيمهم وايديولوجيتهم، وبالنسبة الى الباحثين فإن التظاهر بأن ذلك ليس صحيحاً سوف ينطوي على قدر من عدم النزاهة والأمانة.

ولكن يوجد البعض من المشاكل الكبيرة في هذا الخط من التفكير، وتتمثل المشكلة الأولى في أن الناس لا يعرفون دائماً الايديولوجية الخاصة بهم، كما أن قوة فحص أفكارنا ليست كاملة، كما أن البعض يتمتع بدرجة أقل من الكمال وبصورة تختلف عن الآخرين ولأسباب معروفة، وإذا افترضنا أن نصف عدد الاقتصاديين يعترفون بانحيازهم بشكل علني وينكر النصف الآخر ذلك الموقف فإن العامة سوف تثق بصورة طبيعية بالمجموعة الأخيرة وتوليها ما تستحق من احترام وهذه ليست نتيجة جيدة.

وتتمثل المشكلة الثانية في أن المسافة قصيرة بين الاعتراف بالانحياز وبين القبول به، ويود روبرتس اضافة الى نظرائه في جناح اليسار أن نعتقد أن هذا الانحياز يمثل صورة ثابتة وغير قابلة للتغيير في أي وقت، ولكن حقيقة الأمر أن هذه ليست طريقة عمل الأشياء.

وفي مؤسسات البحث والاقتصاديين في العالم الحقيقي – كما هو الحال في أوساط علماء البيولوجيا، فإنهم يمضون الكثير من وقتهم ويبذلون الكثير من جهدهم في محاولة معرفة الحقائق بدلاً من طرح توصيات حول السياسات الواجب اتباعها، وعلى سبيل المثال فإن الاقتصادي قد يعمد الى استعراض معلومات حول مدى تأثير الحد الأدنى للأجور على زيادة معدلات البطالة، أو مدى انعكاس الضرائب على تثبيط التوجه الى العمل.

تداعيات الانحياز والتحامل

من السهل أن يسمح المرء لذلك الانحياز بالتسلل الى حدود الممارسة العملية، واذا كنت تظن أن الفقراء لا يستحقون زيادة في الأجر فمن السهل أن توجه بحثك نحو الاستنتاج القائل بأن الحد الأدنى من الأجور يفضي الى ارتفاع معدلات البطالة، وإذا كنت تعتقد أنه من الجيد أن تزيد الضرائب على الأغنياء من أجل خفض اللامساواة في المجتمع فسيتعين عليك فقط نشر تلك النتائج التي تشير الى أن الضرائب لا تثبط العمل.

وأنا أظن أن الاقتصاديين – اضافة الى الباحثين من كل الأنواع – يجب أن يقاوموا هذا الإغراء، وسوف يتوجب عليهم الاعلان عن الحقائق بأكبر قدر ممكن من الموضوعية.

وهذا لا يعني أنني أظن أن الاقتصاديين يجب أن يعملوا على إخفاء آرائهم وقيمهم. بل أن يعملوا على الاحتفاظ بها الى ما بعد التحقق من الحقائق، واذا كانت بحوثك تقول لك إن الضرائب سيئة حقاً بالنسبة الى الاقتصاد فسيتعين عليك عندئذ الاعلان عن النتائج التي توصلت اليها، ومن ثم أن تقول إنك تظن بأن علينا أن نفرض الضرائب على الأغنياء على أي حال، واذا كنت تشعر أن بحوثك قد تفضي الى حصيلة يمكن أن تلحق الضرر بالعالم فيتعين عليك عدم القيام بذلك في المقام الأول.

صحيح أنني أطرح هنا عقيدتي الخاصة ويبدو لي أن مجتمعنا قد ازدهر عندما فرضنا على أفكارنا القيام بتقييم موضوعي للحقائق – وكانت تلك الطريقة التي استطعنا من خلالها اكتشاف الكهرباء والحمض النووي والملايين من العوامل المفيدة في ميادين المعرفة، وصحيح أيضاً أن الجنس البشري قد أساء في بعض الأوقات استخدام تلك المعرفة ولكننا بصورة اجمالية استخدمناها من أجل جعل الانسان أكثر صحة وثروة وسلاماً. والسؤال هو لماذا لا ينسحب ذلك على العلوم الاجتماعية؟

قوة المعرفة

أنا أؤمن بالموضوعية لأنني أعتقد أن الجنس البشري سوف يفعل الشيء الصحيح من خلال قوة المعرفة، ويبدو لي جلياً أيضاً أن الاقتصاديين إذا سمحوا لقيمهم بأن تصبغ وتطبع عملهم فإن ثقة العامة بهم ستصبح أقل وسيتم تجاهلهم في نهاية المطاف. وربما كان ذلك هو السبب الذي يدفع الاقتصاديين بشكل عادي الى محاولة الحفاظ على الموضوعية والابتعاد عن السياسة. ومسألة مدى نجاحهم في هذه المهمة لا تزال غير معروفة على أي حال – ولكن المعلومات القليلة المتوافرة لدينا تقول لي إنهم يقومون بعمل جيد، وهذا ميدان أظن أن من الواجب الثناء على عمل الاقتصاديين فيه والاشادة بانجازاتهم.

وهكذا عندما يتضارب انحياز علماء الاجتماع مع تقييمهم النزيه والصادق للحقائق فإنني أظن أن الايديولوجية – وليس الموضوعية – يجب ان تطرح وتعرض، ويقول الاقتصادي آدم اوزيمك عن هذه النقطة بجلاء: " ما يعنيه ذلك – بشكل عملي - هو ان المرء اذا أصر على المضي في التشكيك الشديد في الأدلة التجريبية فإن عليه ألا يثق تماماً في ايديولوجيته أيضاً".

ومن هذا المنطلق نقول إن قيمنا تستحق درجة من التدقيق والمراجعة تضاهي ما نوليه الى أي حصيلة بحثية.

* Noah Smith