من بين ما تناولته في مقال الأحد الماضي تحت هذا العنوان، بعض الثقوب في ثوب العدالة، ما تناولته على صفحات جريدة "الأهرام" من قيام مباحث الكهرباء في مصر بفرض التصالح على المواطن، الذي تتهمه بسرقة تيار كهربائي، وقيام إدارة الجوازات والهجرة بفرض التصالح على المقيمين بعدم إخطارها بتجديد جوازاتهم بالمخالفة لقرار أصدرته بذلك، ولم يجرمه المشرع أصلاً، وهو الموضوع الذي تناولته في مقالي الأسبوعي على صفحات "الجريدة" ابتداءً من 28/ 12/ 2014، وفي الحالتين، يتم تحصيل غرامات مالية كبيرة من المتهمين تحت التهديد بقطع التيار الكهربائي في مصر، وترحيل المقيم في الكويت، وكيف يحرم المتهم في الحالتين من حق التقاضي ومن محاكمة منصفة عادلة كفلها له كل من دستور مصر ودستور الكويت، وهو ما يناقض أصل البراءة في الإنسان، وهو المبدأ الدستوري، الذي أتناوله تفصيلا في هذا المقال في سياق الحديث عن ثقوب في ثوب العدالة.

Ad

افتراض البراءة في الإنسان

يقول الرسول عليه الصلاة والسلام "ادرؤوا الحدود بالشبهات، فإن كان له مخرج فخلوا سبيله، فأن يخطئ الإمام في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة".

وفي سياق هذا الحديث قاعدة أصبحت جزءاً من الضمير الإنساني، وهي افتراض البراءة في الإنسان، جسدتها المادة (11) من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والفقرة الثانية من المادة (14) من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية. وجسدتها الدساتير الحديثة ومنها دستور الكويت الذي نص في المادة (34) على أن "المتهم بريء حتى تثبت إدانته"، في محاكمة قانونية، تؤمن له فيها كل الضمانات الضرورية لممارسة حق الدفاع.

وقد قضت المحكمة الدستورية العليا في مصر بأن افتراض البراءة في الإنسان قرينة تؤسس على الفطرة التي جبل عليها، إلى أن تنقض بقضاء باتّ، وهي أصل ثابت يتعلق بالتهمة الجنائية من ناحية إثباتها، وينسحب أثرها إلى الدعوى الجنائية في جميع مراحلها وعلى امتداد إجراءاتها. (المحكمة الدستورية ق31 لسنة 16ق دستورية).

كما قضت المحكمة الدستورية في الكويت بأنه يندرج تحت ضوابط المحاكمة المنصفة أصل البراءة كقاعدة أساسية تفرضها الفطرة وتوجبها حقائق الأشياء، وهي قاعدة حرص الدستور على التأكيد عليها في المادة (34) منه، وأصل البراءة باعتباره قاعدة أساسية في النظام الاتهامي إنما يمتد إلى كل فرد سواء أكان مشتبها فيه أم متهما، وهذه القاعدة التي أقرتها الشرائع والمواثيق ليس القصد منها حماية المذنبين إنما لتدرأ بمقتضاها العقوبة عن الفرد إذا كانت التهمة الموجهة إليه تحيطها الشبهات، دون التيقن من مقارفة المتهم للفعل محل الاتهام. (القضية رقم 4 لسنة 2 ق دستوري).

قانون الإجراءات الجزائية دستور حقيقي

ولئن كان الدستور قد نص في المادة 180 على أن تظل القوانين المعمول بها عند صدوره سارية، ما لم تعدل أو تُلغَ، وفقا للنظام المقرر في الدستور، إلا أنه اشترط لسريان ما قررته هذه القوانين ألا تتعارض مع نص من نصوص الدستور.

ولئن كان المشرع في قانون الجزاء رقم 16 لسنة 1960، وهو من القوانين المعمول بها عند العمل بالدستور، قد حرص على أن يضمن هذا القانون أهم المبادئ الأساسية في شرعية التجريم والعقاب أفرد لها الباب الأول من أبواب كتابه الأول، الذي استهله بأنه "لا يعد الفعل جريمة، ولا يجوز توقيع عقوبة من أجله، إلا بناء على نص في القانون، هو المبدأ الذي نص عليه، بعد ذلك الدستور في المادة (32)".

إلا أن قانون الإجراءات الجزائية هو أول القوانين التي تقتضي المراجعة من السلطتين التشريعية والتنفيذية، فهو قانون يفرض كثيرا من القيود على حريات المواطنين، بما يستلزمه من إجراءات وأسباب وقواعد في القبض على الأفراد أو ضبطهم وإحضارهم إلى سلطات التحقيق أو اختراق خصوصياتهم بتفتيشهم أو تفتيش مساكنهم، أو بالاطلاع على مراسلاتهم أو التنصت على مكالماتهم الهاتفية، وحبسهم على ذمة التحقيق في القضايا، ومن قواعد يفترض أنها تكفل المحاكمة المنصفة العادلة ومن طرق للطعن على الأحكام.

لذلك قيل بحق إن قانون الإجراءات الجزائية دستور حقيقي يحفظ للحاكم رغبته المشروعة في تتبع الجريمة وملاحظة المجرمين والقصاص للمجتمع من الذين يعكرون صفو النظام العام، وكذلك يحفظ أيضا للمتهم البريء رغبته المشروعة في ألا ينال من إجراءاته عنت أو إرهاق، أو التواء قصد أو انحراف غاية، لدى فرد من الأفراد.

شبهة عدم الدستورية

ولعل أول ما يصادف المرء من ثقوب في ثوب العدالة، في قانون الإجراءات الجزائية في الكويت، هو شمول الحكم الغيابي الصادر بسجن المتهم في جناية بالنفاذ الفوري، وأن المعارضة في الحكم لا توقف نفاذه.

ذلك أن المادة (214) من قانون الإجراءات الجزائية تعطي المحكمة سلطة في أن تأمر بجعل الحكم الابتدائي بالعقوبة مشمولا بالنفاذ الفوري.

وهي سلطة كنا نأمل ألا تستخدمها المحاكم في الأحكام التي تصدر في جناية وفي غيبة المتهم، حتى لا تهدر حقوقه في حق التقاضي وفي حق الدفاع، وهو أصل الحريات جميعا، وإهدار المبدأ القاضي بأن المتهم بريء حتى تثبت إدانته، فالمتهم الذي لم يحضر لم يقدم دفاعه، ولم ينل المحاكمة العادلة المنصفة.

إلا أن البادئ أن المحاكم تسرف في استخدام هذه السلطة، ولا تجد حرجا في استخدامها في الأحكام الغيابية، أو في الجرائم التي لا تمثل خطورة كبيرة على المجتمع.

 مثلما حدث في الأيام القليلة الماضية عندما صدر حكم في الكويت في مشاجرة اقترن بها ظرف مشدد فتحولت إلى جناية، ويقضي الحكم غيابيا بسجن شقيقين لمدة خمس سنوات، وقد شمل الحكم العقوبة بالنفاذ الفوري، بعد أن رفضت المحكمة قبول العذر الذي قدمه الحاضر عن المتهم، بأن تخلف المتهم عن حضور الجلسة المحددة لمحاكمته، كان بسبب غيابه خارج البلاد، وأن المحاكمة لم تستغرق سوى دقيقة واحدة، حجزت بعدها القضية للحكم.

ولا ريب في أن نص المادة 214 من قانون الإجراءات الجزائية في الكويت، يشوبه عدم الدستورية، بسبب العموم والإطلاق في هذا النص، والذي يسمح للمحاكم بتطبيقه واستخدام السلطة المنصوص عليها فيه حتى في الأحكام الغيابية التي تصدر في الجنايات، لأنه يخل بالضمانات الأساسية في المحاكمة العادلة المنصفة، ويهدر المبدأ الدستوري القاضي بأن المتهم بريء حتى تثبت إدانته.

وهو نهج تشريعي يختلف تماما عن النهج الذي تتبعه التشريعات المقارنة، ومنها قانون الإجراءات الجنائية في مصر بالنسبة إلى الأحكام الغيابية التي تصدر في جناية، حيث يسقط الحكم الغيابي ويعتبر كأن لم يكن إذا حضر المتهم أو قبض عليه قبل سقوط العقوبة، وتعاد محاكمته من جديد (المادة 395 من قانون الإجراءات الجنائية في مصر).

وللحديث بقية عن المحاكمات المنصفة العادلة إن كان في العمر بقية.