سيدتي، أُثمّن تعزيتك على ما حدث، ولكن الأسئلة التي تتزاحم في كياني، تحول بيني وبين أن أحزن. الأسئلةُ وسادتي ساعاتِ النوم، وفي ساعاتِ اليقظة نبضُ لحظاتي. شاعرٌ يحمل قيثاراً، ويغني مدنَه التي تحترق. يقول في قصيدته إن الكلمةَ باطلةٌ، والفعلَ باطلٌ هو الآخر. ما من تعزية لكيان، تحلّ الأسئلةُ فيه محل الحزن. هذا الشاعر الذي يُقيم في منفاه، حلّت الأسئلةُ فيه محلّ هويته، وقد كانت هويتُه كلِحاء الشجر، بفعل خشونة الحزنِ فيها. الآن، وهو يستسلم للأسئلة وحدها، يخفّ كدخان الحرائق. حين سألني سائلٌ ذات يوم، داخل إحدى قصائدي: "من أنت؟" أجبتُ، أو أجاب الشاعرُ فيها:

"أنا الذي يعجِزُ عن إبطالْ

Ad

عُبوّةٍ ناسفةٍ تحت الخُطى الغافلة،

يعجِزُ عن إمالةِ الرصاصةِ القاتلة

عن سيرِها في لحظةِ الاغتيالْ." (2014)

لم تكن إجابةً كما ترين، بل عَرضاً لهوية حائرة. لم أفخر يوماً بأني عربيُّ الهويّة، ولم أأنف منها. لم أفخر يوماً بأني أنتسب لعائلة مسلمة، ولم أأنف. كانتا كلون الماء في الماء. اليوم حين أُسأل عن هويتي، أعرضها فإذا هي حزمة من أسئلة لا غير، تُدهشني قبل أن تُدهش السائل. أذكر أن السؤال تكرر في قصيدة أقدمَ عهداً، فكانت الإجابة:

"... منْ نحنُ، إلا استشاطةُ أعمى

يُقادُ بخيطِ المتاهةِ؛

نردٌ على صفحــةِ الليلِ يُرمــى،

ومــا من صدىً لتَدَحْــرُجِــــه."(2000)

كلانا سيدتي يقرأ الخبر، أنت الأميركية في نيويورك، وأنا العربي المسلم في المنفى: "..167 قتيل في التفجير الانتحاري في بغداد... أكثر هجمات الدولة الإسلامية دموية- تفجير انتحاري "إسلامي" قرب قبر النبي في المدينة المنورة- تفجير انتحاري في القطيف- في دكّا..." ولا تغفلي أن القتل إنما يحدث على يد الإسلاميين في رمضان.

وكلانا يقرأ الخبر: "... نجحت وكالةُ (ناسا) في وضع مسبار في مدار حول كوكب المشتري... ويأمل العلماء استخدام المسبار لدراسة طبيعة أعماق كوكب المشتري، لأن هيكل المشتري وتكوينه الكيماوي يخفيان أدلة على أسرار تشكُّلِ الكون قبل نحو 4 مليارات ونصف المليار سنة".

الخبر الأول ينتسب لي وأنتسب له. الخبر الثاني ينتسب لك وتنتسبين له. أراد كلٌّ منا هذا أم أبى. المثقف العربي في داخلي يحتاج إلى المخاتلة، يحاول أن ينتزع نفسه من انتسابه إلى الخبر الأول، ويلقيها في الانتسابِ الثاني بالقوة أو بالمناورة؛ فأزعم أني كيان حديث، بل ما بعد حداثي، شأنكِ، وأدعوكِ لعقد مؤتمر بيننا عن "حوار الحضارات". أخفي في داخلي القتيل والقاتل، وتغضّين الطرفَ لسبب. القتيل فيّ يكتفي بإعلان هويته كعربي وكمسلم، والقاتل يُنكرها لأنها ليست مُسندة. ولكي أنتزع نفسي من الفضيحة، أنا القاتلُ والقتيل، ألجأ إلى النظرية المجردة. ومن يجرؤ أن يسأل عن تربتها التي نبتت فيها؟ أعرف عن وعي أن حداثتك نبتت في تربة، وأن حداثتي لا تحتاج إلى تربة كي تنبت. فالوهم لا يحتاج إلى منطق العلّية.

تزاحمُ الأسئلة لم يكن وليدَ تزاحم الحزن. لقد اكتشفت ذلك من قصائدي التي أجدها تلتبسُ عليّ مع الأيام. حتى لو وردت كلمةُ الحزن هذه في بيت من قصيدة، فهي فيها أشبه بمحطة استراحة، لأن في الحزن نبالةً، وتنهداتٍ تتسع معها الرئةُ، ويرقُّ القلب. ولكن الأسئلةَ وليدةُ اليأس وفقدان الأمل:

"... يُطلُّ، كأني به الشاعرُ المُكتهلْ،

على ما تبقّى من الكلماتْ،/ مبعثرةً فوق سطح الحياةْ

بغير جذورٍ؛ فيأنف أن يرتحلْ

على قدمين؛

تساوى لديه السقوطُ الوشيكُ، وحبلُ النجاةْ.

تساوى لديه زمانٌ مضى، وزمانٌ حضرْ،/ وآخرُ في القدرِ المُنتَظرْ.

لذا شاء أنْ يتوارى على عجلٍ في مهبِّ الرياحْ،

ومجرى المياه، وفي الضوء، في ظلمةِ البين بينْ؛

رحيلٌ خفيٌّ على كلِّ عيْنْ. (2016)