في يناير من عام 2009، وصل رئيس الوزراء التركي (آنذاك) رجب طيب إردوغان إلى بلاده عائداً من دافوس، فوجد أفواجاً من الجمهور في انتظاره، هاتفة له: "تركيا معك"، و"زعيم عالمي جديد"، و"لقد شاهد العالم قوة الأتراك"، و"الآن أصبح لنا مكان في أوروبا والعالم"، وهي هتافات لم يسمعها من قبل، رغم تاريخه السياسي الثري، ومدائح لا يتوقعها هو أو زعيم تركي غيره، حتى لو جنب بلاده تأثيرات الأزمة المالية العالمية، أو حسن برامجها الصحية والتأمينية، أو خفض معدلات البطالة، أو زاد النمو الاقتصادي، أو عزز مكانتها الإقليمية.

لم يفعل إرودغان الكثير، هو فقط تلاسن مع الرئيس الإسرائيلي شمعون بيريز، وانسحب من لقاء معه وآخرين في منتدى دافوس، بعدما هاجم "استخدام إسرائيل المفرط للقوة في عدوانها على غزة"، وقتلها النساء والأطفال، وحصارها للشعب الفلسطيني الأعزل، وقصفها للمساجد.

Ad

انتشى الجمهور في العالم العربي آنذاك، وهتف بحياة إردوغان مع الجماهير التركية، وعاير زعماءه لأنهم لم يكونوا بقدرة الزعيم التركي، لكن أحداً لم يكن يدرك أن العلاقات التركية- الإسرائيلية في ذلك الوقت كانت "استراتيجية"، وأنها ستعود كذلك تحت حكم إردوغان أيضاً.

كانت تركيا أول دولة إسلامية تعترف بإسرائيل في عام 1949، ومنذ ذلك التاريخ والدولتان ترتبطان بعلاقات يمكن تصنيفها ببساطة بأنها "استراتيجية نوعية تتمتع بالاستدامة والتجدد والتطوير".

لقد عادت إسرائيل وقصفت سفينة مساعدات تركية موجهة إلى غزة في صيف عام 2010، وحين حاول إردوغان أن يوصل رسالة إليها تشير إلى فداحة ما أقدمت عليه، قال ببساطة "إن إسرائيل على وشك أن تفقد أفضل حليف لها في المنطقة".

لقد قتلت إسرائيل أتراكاً وأغرقت السفينة مرمرة، لكن إردوغان قبل التعويضات من الدولة العبرية وأعلن التطبيع معها.

وكما فعل إردوغان مع إسرائيل فعل مع روسيا، التي اضطر أن يهز مكانته ويمس كبرياءه من أجل استعادة العلاقات معها، فأقدم على الاعتذار للرئيس بوتين، في سبيل إصلاح العلاقات وإعادتها إلى ما كانت عليه.

لا يمكن لأي تحليل منصف أن يتجاهل التقدم الكبير الذي أحرزته تركيا على يدي إردوغان، منذ اعتلى سدة السلطة في عام 2003، رئيساً للوزراء. فقد استلم الرجل الموقع التنفيذي الأول في هذا البلد العريق في وقت تدنت فيه معدلات نموه، وزادت ديونه، وتراجعت مكانته الإقليمية والدولية، فإذا به يأخذه إلى آفاق جديدة من النجاح والازدهار في أقل من عشرة أعوام.

عندما ترك إردوغان رئاسة الحكومة التركية، بسبب اعتبارات قانونية تمنع تمديد فترات رئاسة مجلس الوزراء، كانت بلاده تحتل مكانة كبيرة ومميزة، وتتحول إلى لاعب أساسي في منطقة الشرق الأوسط، وتتعامل مع الاتحاد الأوروبي بندية، وتحتل موقعاً في قائمة الاقتصادات العشرين الكبرى في العالم.

تلك قصة نجاح لا ينكرها أحد، لكن بموازاة تلك القصة كان هناك مسلسل من الألاعيب السياسية، والتدخلات في شؤون الآخرين، واللعب بنار الطائفية والإرهاب، والكيل بمكاييل متعددة.

لقد اتهمت بعض الأطراف الدولية، ومنها روسيا على سبيل المثال، نظام إردوغان بدعم منظمات "متطرفة وإرهابية" تقاتل في سورية، وأصبحت بلاده على مدى خمس سنوات بوابة مفتوحة لمرور المقاتلين الأجانب إلى داخل هذا البلد المنكوب، وفق تقارير دولية عديدة.

ليس هذا فقط، بل إن إردوغان، الذي أظهر تعلقاً كبيراً بالسلطة، لم يشأ أن يبتعد عن المشهد بعد نفاد مدد ولايته المقننة كرئيس للوزراء، فتنافس على منصب الرئيس، ذي الصلاحيات الشرفية، وما لبث أن التف على الدستور، فوسع نطاق صلاحياته على حساب رئيس وزرائه آنذاك داود أوغلو، الذي اصطدم به لاحقاً، قبل أن يطيح به ويأتي بـ"بن علي يلدريم" رئيساً للوزراء.

يريد إردوغان الآن أن يحافظ على مكانته كرأس السلطة التنفيذية والمتحكم الأول في شؤون البلاد، وبالتالي فليس أمامه سوى أن يغير الدستور، ليصبح النظام التركي نظاماً رئاسياً، يسمح له بتكريس "النزعة السلطانية" التي طالما رأى نقاده أنها تحركه.

لكن علاقاته الخارجية والداخلية أخذت في التدهور بسبب خشونة سياساته، وانفراده بالقرار، واهتمامه الكبير بتكريس "عظمته"، بما يعيد أمجاد الخلافة الإسلامية، التي يريد أن يسترد من خلالها الدور الإمبراطوري المفقود.

فقد اصطدم إردوغان بإسرائيل، وأغضب روسيا، وحارب سورية، وعادى مصر، ووتر علاقات بلاده مع الاتحاد الأوروبي، وضغط على حلفائه الخليجيين.

وبدلاً من أن يجد نفسه في محيط أسماه رئيس الوزاء المبعد داود أوغلو "صفر من المشاكل"، وضع تركيا في محيط يمكن تسميته بـ"100% مشاكل".

من أكبر مميزات إردوغان أنه ذكي وعملي، ورغم أن "كبرياءه السلطاني وفخره القومي وتصوره الديني" يؤثر تأثيراً كبيراً في سلوكه، فإنه يمتلك المرونة اللازمة لكي يغير اتجاهه بنسبة 180 درجة لتحقيق المصلحة.

فتلك روسيا التي تعالى عليها بعدما أسقط طائرتها الحربية، رضخ لها واعتذر اعتذاراً مهيناً، لكي يستعيد العلاقات معها، وينشط التجارة والسياحة، ويوقف الدعم العسكري الروسي المحتمل للأكراد الراغبين في الانفصال عن دولته.

وتلك إسرائيل، التي أوهم عرباً ومسلمين أنه عدوها الأول، خصوصاً بعد حادث "مرمرة"، راح يخطب ودها، ويوقع الاتفاقيات للتطبيع معها.

أما مصر، التي لا يمل من توجيه الاتهامات إلى نظامها، ويصفه بأنه "دكتاتوري واستبدادي وانقلابي، وأطاح بإخواننا الذين كانوا يحكمون بطريقة ديمقراطية"، فقد راح رئيس وزرائه "يلدريم" يشير إلى إمكانية التطبيع معها، وتطوير العلاقات الاقتصادية، وعقد لقاءات بين مسؤولي البلدين، وحتى التنسيق العسكري.

من الممكن أن يصالح إردوغان المصريين، ومن الممكن أن يصالح نظام بشار.

على الذين يتعاملون مع إردوغان ألا يهتزوا إن خاصمهم، وألا يفرحوا إن حالفهم... عليهم فقط أن يوفروا له مكاسب وأثماناً ليبقى في صفوفهم.

لطالما كان وجود قدر مناسب من البراغماتية، في أي نظام حكم، شيء مفيد لصيانة مصالح الدولة، لكن مع الإفراط في البراغماتية تفقد الدولة ذرائعها الأخلاقية، ومبرر احترام العالم لها.

* كاتب مصري