الحرية لا يمكن أن تتجزأ، هذه المقولة متى ما قبلنا بها، تغدو أية محاولة لشطب بعض مظاهر الحرية ولو بشكل متدرج خطرا وجوديا، ينفث في النفس القلق والتوتر من الهرولة إلى مستنقع الانحطاط. إن الحكمة الشائعة تهمس في آذاننا بأن ثمن التخلي عن الحرية هو ولوج خانع في قفص الخوف والرعب، وهذا تحديدا ما يجعل من مقاومة المراحل الأولى من الاعتداء على الحرية أمرا على قدر كبير من الأهمية. لا أريد أن أجادل في اتساق قوى بعينها في مناهضة الحرية، ولكن بيننا رهط من السياسيين ذوي نية حسنة يتصورون أن تقليص الحرية ضروري لمواجهة الأشرار الذين يتربصون بنا! كما أن هناك نفرا من السياسيين الخبثاء يؤكدون أن تقليص الحرية هو لحمايتنا من شرور أنفسنا وللحيلولة دون تحولنا إلى وحوش كاسرة تنقض على بعضها بعضا. وكلا القولين حينما نمررهما في مصفاة العقل يتناقضان مع المنطق، فالنظام القائم على الحرية له تراكيب معينة، حجر الأساس فيها حرية التعبير عن الرأي.
إن تجارب مجتمعات ليست بعيدة عنا زمنيا وجغرافيا تقذف في قلوبنا درسا بليغا مفاده، أن أفراد أي مجتمع ليس بمقدورهم الظفر بالحرية إن كان لديهم فقط بعض مظاهرها، وهذا هو السبب الرئيس في كوننا غير قادرين على تخيل مجتمع ديمقراطي متمدن متحضر، لا تكون الحرية ركيزته الأساسية، وفي الوقت عينه لا تبصر عيوننا أي جانب أخلاقي في مجتمع خال من قيمة الحرية.وقد تنبه المفكرون والفلاسفة منذ زمن بعيد إلى أهمية حرية الرأي في تطور الإنسانية وتقدمها، وإلى المخاطر والتهديدات التي قد تعترضها، ومن ثم تحكم على الإنسان الفرد بالتقهقر إلى الوراء وتسلبه مكانته المميزة، ويسوق هؤلاء المفكرون والفلاسفة في حديثهم عن أهمية حرية الرأي تنبيهات متنوعة تشير إلى هشاشة هذا المبدأ وضعفه. ولعل مقولة فولتير الشهيرة: "قد لا يعجبني رأيك ولكنني سأدافع حتى الموت عن حقك في التعبير عنه"، تعكس بعضا من ذلك، إذ تنطوي عبارته على تشديد للأهمية التي تحوزها حرية الرأي والتي تجعل المرء مستعدا لأن يدافع عنها باستماتة إلى درجة التضحية بحياته حتى إن كان لا يستسيغ رأي غريمه أو لا يقع في نفسه موقعا حسنا، وبمعنى آخر، فإن حرية الرأي مقدسة سواء تعلق الأمر بما يروق للمرء سماعه أو بما لا يود سماعه. وفي ظني أن هذا التفسير الشائع الصحيح لقول فولتير له كذلك وجه آخر عميق يتعلق بارتباط حرية التعبير عن الرأي بقيمة التسامح، فهو يشير إلى أن التسامح يتطلب حرية التعبير عن الرأي، بما سيعني الاعتراف بحق الآخر في قول رأيه وإفساح المجال له للمساهمة سياسيا واجتماعيا من خلال الاعتراف بحقه في نمط حياة مغاير يتواءم مع تفكيره ومعتقداته. لذا تنهض حرية الرأي في عالمنا المعاصر أساسا لخلق مجتمعات ديمقراطية وعادلة تحتفي بالفرد وتقدم له ضمانة ضد الخوف والرعب والتخلف، إذ من غير حرية التعبير عن الرأي ليس بالإمكان المطالبة ببقية الحريات أو الدفاع عنها حين تتعرض للهجوم، وبدون حرية التعبير عن الرأي لن تكون هناك عملية ديمقراطية، ولن يكون متاحا الكشف عن حقائق البرامج والخطط السياسية وتقييمها أو معرفة المسوغات الحقيقية للقرارات السياسية، ولعل أكبر بشاعة لغياب حرية التعبير عن الرأي هي انحدار مستوى التعليم وتفاهته واندثار المعلومات الدقيقة والراجحة.
مقالات
الحرية وهواجسنا القاتلة
10-07-2016