"ديروط الشريف ونعمان عبدالحافظ"، اسم المجموعة القصصية للكاتب الكبير محمد مستجاب، التي أهداني إياها ابنه الكاتب أيضا محمد محمد مستجاب، وكنت ناوية أن أبدأ المقال بالكتابة عنها، لكن لا أدري كيف سحبتني للمقارنة ما بين كتابتها وكتابة كُتاب القصة القصيرة في الكويت، وهذه هي قوة إشعاع الأعمال الكبيرة التي تقود إلى معارف جديدة، لذا سأبدأ بالتنويه بهذه الفروقات واختلاف الكتابة ما بينهما.

ففي قصص محمد مستجاب عمق الزمن المصري وحضور المكان فيه إلى يومنا هذا، فكل ما يذكره الكاتب في قصصه من أمكنة وأحداث ومهن وسلوكيات ولغة تعبير وطبيعة العلاقات كلها مازالت كما هي تتحدى الغياب والمحو والأفول، لأن مصر ليست إلا تراكم حضارات لم يهزها لا الداخل ولا الخارج ولا أي مستورد، تمتص كل ما يجدّ عليها، لكنها تُبقي كل ما فيها على حاله.

Ad

لذا من السهل على الكتاب، مهما تباعدت بينهم الأجيال، أن يجدوا طبيعة الحياة ثابتة بمكانها، حتى وإن دخلت عليها المستجدات، فلن تمحوها بل تذوب فيها وتزيد من ثرائها، إلى جانب المعمار الثابت الخالد بكل تفاصيله عبر كل الحضارات والأزمنة التي مرت عليها، من مصر الفرعونية إلى الفاطمية والقبطية والإسلامية، وقبل ذلك العصر اليوناني والروماني، كلها ما زالت ماثلة في العمارة المصرية، وحتى داخل حاراتها وصعيدها وريفها، كلها حبست الزمان والمكان دون زحزحة، وبالتالي تمنح الكتاب ثروة عظيمة ينضحون من نهرها الذي لا ينضب.

أما في الكويت، فقد أُزيلت كل المعالم القديمة، ومُحي الزمان والمكان بظهور البترول، وحتى المهن القديمة اندثرت، وبقيت أسواقها للسياحة التراثية، واللغة تغيرت عن ماضيها، ولم يعد للأجيال اللاحقة معرفتهما إلا عن طريق المسلسلات الخليجية أو المسلسلات الأردنية البدوية، فعن ماذا سيكتبون، وليس هناك أثر لعمق الحياة الماضية ولا زمنها، وليس أمامهم إلا المولات التجارية وآخر الماركات والمقاهي والسياحة والسناب شات والانستغرام وبقية توابع زمن الإنترنت.

ولأن الحياة أصبحت هكذا، فعلى كُتاب القصة القصيرة أن يعمقوا رؤيتهم لمعطيات الزمن الجديد، وأن يتناولوه من جوهره، وليس من خارجه، حتى تبقى قصص زمنهم هذه للأجيال القادمة بعد 100 سنة قد تعود فيها الكويت إلى حياة متقشفة ومختلفة عما هي عليه الآن، وبمعطيات أخرى مختلفة تماما عن حاضرنا هذا، لأننا مجتمعات غير ثابتة، وتتغير من حال إلى حال بغمضة عين، فلن يبقى لنا إلا التدوين.

هذه الأفكار ولدتها قصص محمد مستجاب، أحد كبار رواد القصة المصرية والعربية القصيرة، وأتمنى من شباب كُتاب القصة القصيرة قراءة أعماله، لأنها نصوص ساحرة مبهرة عالمية بمعنى الكلمة، حتى وإن لم تنل حظها في الانتشار العالمي، عوالمها واقعية، ولكن عين الكاتب جعلتها سحرية، وقدرته العجيبة على تحويل الواقع ومنتجته لمشاهد سريالية ساحرة، وذلك نتاج ما سبق ذكره من اختلاط التراث الديني الإسلامي بالقبطي بالفرعوني وبالخرافات وحكايات القرية التي توازي الأساطير، عمق الواقع القروي الصغير وعملقه، وجعله يمتد ويصبح عالما ليس له حدود، فكم تعمل الحكايات من توسيع وتعميق رقعة الواقع!

كل قصة في مجموعته تسرق الآهة من القلب، ولا تدري أيهما الأفضل، فكل واحدة لها عوالمها وحكاياتها الغريبة العجيبة، فمثلا وصف تحول المرأة في قصة "كلب السنط" أفزعني مشهد تحولها من امرأة جميلة مغوية إلى مخلوق مخيف: "ازددت عليها ضغطا، شعرها تلاشى وصوتها تغير، ونما لها شارب، ضربتها، ضربتها لأغلق ذلك الفم المشوه، ضربتها بعنف وبكل قسوة كف اليد، ذعرت المرأة، ذعرت ووقفت سوداء مليئة بشعر خشن حتى حوافرها، حوافرها، الله أكبر، فبصقت على وجهي، الله وأكبر، فانطلق الشرر من عينيها، الله وأكبر وأعوذ بالله من الشيطان الرجيم".

طريقة وصفه للحالات التي تحدث في المشاهد عبقرية مذهلة تجعل القارئ يمتصها بذهول، حتى إني كنت أعيد قراءة أغلب الجمل للذتها المدهشة، مثال: "وهرع الرجل إلى داره متأبطا رعبه، ليس متأبطا- فقط- رعبه، بل وقاضما لقمة كبيرة من الرعب تتخبط في فمه، وتدفع بالصفرة والفزع والوجل إلى كل كيانه".

كل القصص في منتهى الغرابة، على الرغم من واقعيتها، لأن محمد حجاب استطاع أن يراها من عين أسطرت الحدث، وهذا ما سأبينه في المقال القادم.