أزعم أن الأزمة التي ضربت سورية، وحمّلت إنسانها ما ينوء به أكثر أصناف البشر مجالدة واحتمالاً، خلقت مناقب جديدة في هذا الشعب القديم، وإن كان هذا يحتاج إلى حجج وأسانيد ذات اعتبار؛ كإجراء البحوث المعمقة، أو إعداد الاستبيانات، أو عمليات الرصد والملاحظة المقنن.

Ad

ينشغل العالم في تلك الأثناء تحديداً بالأزمة السورية، وتتصدر أخبار ذلك البلد النشرات في الصحف والفضائيات المختلفة، وتتعلق الأنظار بمشاهد القصف والذبح الآتية من هناك، ويحبس الجميع أنفاسهم وهم يتابعون محاولات الوصول إلى حل سياسي يمكن أن ينهي تلك الأزمة العصيبة.

يتم التعامل مع سورية في معظم المقاربات بطريقة جمعية، ويتحول السوريون بكل خصوصيتهم وتفردهم إلى أرقام، حتى الفصائل التي تتحدث عنها الأخبار لا تبدو سوى عناوين لمجموعات من البشر بلا ملامح فارقة.

يتيه المصريون بمحاولة بحثية جادة قام بها قبل عقود الباحث النابه جمال حمدان، وقد أثمرت تلك المحاولة كتاباً فريداً عنوانه "شخصية مصر"، وأفضل ما في هذا الكتاب أنه لم يكن مدونة لتقريع المصريين أو مدحهم، بقدر ما كان محاولة مسؤولة لمعرفة الأسباب التي أدت إلى أن يصبحوا ما هم عليه.

لكن الشخصية السورية لم تحظ حتى وقتنا هذا ببحث معمق مشابه، وبعض المحاولات التي جرت في هذا الصدد لم تتجاوز السعي إلى "تشخيص عيوب" الشخصية السورية، أو مدح بعض جوانبها، أو التحليل الاجتماعي والنفساني لبعض العادات المتأصلة في هذا الشعب.

ومن ذلك، أن سادت صورة مبدئية عن الشخصية السورية؛ بعضها جاء من تلك الكتابات والمحاولات البحثية المبتورة، وبعضها الآخر حصلنا عليه نتيجة اختلاطنا بالسوريين، خصوصاً هؤلاء الذين اختاروا الهجرة المؤقتة أو الدائمة، وجزء منها أمكننا استخلاصه من متابعة الأدب أو الدراما السورية، وتلك بالذات حققت نفاذاً ملحوظاً في الإطار الإقليمي في العقدين الأخيرين.

سيمكننا تلخيص الانطباعات التي سادت إثر هذه المحاولات في أن الشخصية السورية بدت معتدة، وواثقة في خياراتها الذاتية إلى حد بعيد، كما أن اللهجة الشامية المحببة ظلت عنواناً للجاذبية واللباقة.

لكن ثمة الكثير من السلبيات التي أشار إليها بعض الباحثين والمعلقين؛ خصوصاً تلك التي أتت ضمن سياق تشخيص تداعيات الاستبداد، الذي حكم هذا الشعب على مدى أكثر من أربعة عقود، تحت سلطة أسرة الأسد.

وسيأتي الحديث هنا بالطبع عن الخوف، والتردد، والميل إلى النفاق والمداهنة، والتزلف إلى السلطة، والتمحور حول الذات، وهي صفات يمكن أن تظهر في أي شعب يتعرض لحكم استبدادي طويل.

الأمر ذاته يسري على الصفات المبدئية التي اكتسبها السوريون في مثل تلك التحليلات، كلهم أو بعضهم، خصوصاً ما يتصل بنزعة "المساومة"، والتي تظهر بشكل فائق لدى سكان المدن الرئيسة، مثل دمشق وحلب.

لكن تلك المحاولات كلها تبقى عاجزة عن تشخيص ملامح الشخصية السورية الراهنة، وهي ملامح صنعتها مواريث القرون الطويلة، وعقود الاستبداد الفائتة، وكوارث الاقتتال الأهلي، وغياب الأمن، وتزعزع اليقين، وانهيار الدولة، واحتمالات ضياع الوطن.

واللافت في هذا الإطار أن جميع التطورات التي أثرت في الشخصية السورية على مدى السنوات الخمس الماضية لا يمكن أن تفضي نظرياً إلا إلى تكريس الصفات السلبية القائمة، وخلق مثالب جديدة، وتقليص المناقب... لكن ما حدث كان عكس ذلك تماماً.

من جانبي سأزعم أن الأزمة التي ضربت سورية، وحمّلت إنسانها ما ينوء به أكثر أصناف البشر مجالدة واحتمالاً، خلقت مناقب جديدة في هذا الشعب القديم. سيحتاج إثبات هذا الزعم حججاً وأسانيد ذات اعتبار؛ مثل إجراء البحوث المعمقة، أو إعداد الاستبيانات، أو عمليات الرصد والملاحظة المقننة.

لكن ثمة قرائن وإشارات تبدو كافية الآن لكي تكسب تلك الخلاصة قدراً معتبراً من الوجاهة.

لا تجد سورية في مجموعها العام الآن ما يمكن أن تلهم به العالم، بل على العكس تماماً؛ فإن أثمان الاستبداد فادحة، وطريق الثورة وعر، والتدخل الخارجي على أشده، و"داعش" تتكفل بجعل اسم البلد مرادفاً لـ"الرعب" نفسه، والفصائل تتناحر ولا تظهر حداً أدنى لائقاً من التوافق، وآلة القوة الناعمة توقفت تماماً، أو تكاد، عن العمل والتأثير.

ومع ذلك، فثمة إلهام سوري حقيقي يبدو واقعاً لا يمكن دحضه.

إنه إلهام الشخص السوري الفرد.

سيظهر الإلهام في درجة التماسك الأخلاقي اللافتة التي تميز شخصية الفرد السوري خارج بلاده أو داخلها، وهو تماسك يبقيه، تحت كل تلك الظروف الصعبة، بمنأى عن التورط في الانحلال أو الفوضى الأخلاقية أو ارتكاب الجرائم الشائنة مقارنة بالآخرين.

سيمكن لأي منا أن يرصد تورطاً أو انهياراً أخلاقياً هنا أو هناك، لكن أحداً لا يملك البراهين التي يمكن أن يقنعنا بها أن تلك الكوارث والفواجع الهائلة أدت إلى انحراف أخلاقي واضح في الشخص السوري الفرد، الذي حافظ على درجة من الامتثال والضبط الاجتماعي مذهلة.

يُظهر السوري الفرد قدراً لافتاً للانتباه، وجديراً بالاحترام، من التكافل في تلك الأيام الصعبة، وتبدو التضحيات الكبيرة والصغيرة وافرة، سواء في ما يتعلق بتقاسم الطعام أو الوقود أو الأموال الشحيحة، أو في استضافة من نزحوا وشردوا أو انهارت منازلهم أو تمت مصادرتها.

ورغم الضغوط الكبيرة التي يعانيها النازحون واللاجئون والمهاجرون في المجتمعات التي يعيشون فيها، فإن قدراً معتبراً من هؤلاء لم يستسلم لصفة "لاجئ"، ولكنه راح يبحث بدأب عن عمل أو دراسة، أو شارك بإيثار في جهود الإغاثة وتعزيز الثورة.

تشير مشاهد وحكايات الداخل إلى درجة كبيرة من القدرة على تحمل الأذى، والعيش في الظروف الصعبة، ومواجهة احتمالات الموت والخطر، وتحدي القصف والاستهداف، والانتصار لقيمة الحياة في سياق مفعم بالموت.

تكشف مشاهد إنقاذ ضحايا القصف، أو جمع أشلائهم، وإزالة آثار المعارك، وإيواء المشردين، وعلاج الجرحى صوراً من المناقب الجديدة.

إن قدراً كبيراً من قدرة سوري الداخل على البقاء والاحتمال يرجع إلى "نزعة الابتكار واجتراح الحلول المبدعة"، وهي ذاتها النزعة التي وفرت لسوري الخارج فرص العمل والعيش من دون حماية أو إمكانيات في معظم الأحيان.

لقد فعل الإنسان الفرد السوري كل هذا لكي يبقى متماسكاً وصامداً تحت أسوأ الظروف التي يمكن أن يعرفها بشر، وهذا الصمود والتماسك الأخلاقي سيكون لاحقاً عنوان الإلهام السوري.

* كاتب مصري