اسمحوا لي أن أقطع، مؤقتاً، الحديث عن بقية أفلام موسم عيد الأضحى المبارك، لأتوقف عند فيلم تسجيلي لا أنكر أنني شاهدته مُرغماً، بعد أن طُلب مني إعداد تقرير عنه، وزادت كراهيتي له، وأنا أتابع لقطات متفرقة منه أثناء قيام المسؤول عن العرض بإعادة شريط الفيلم إلى بدايته، وإذا بي أفاجأ بحركة كاميرا مرتبكة، تسقط فجأة على الأرض، وترتفع من دون مناسبة إلى السقف، وتقترب من أصابع القدم ثم تضيع تفاصيل أخرى بسبب عدم الاهتمام بضبط البؤرة، أو ما يُسمى عدم التركيز البؤري!

Ad

عنوان الفيلم «هدية منالماضي»، وثمة عنوان جانبي «20 سبتمبر»، ولكلٌ من العنوانين مغزى لا ينفصل عن موضوع الفيلم، الذي أخرجته كوثر يونس، التي تولت أيضاً مهمة المونتاج والتصوير، بينما تحمل المعهد العالي للسينما مسؤولية إنتاج الفيلم الذي يأتي ضمن مشاريع التخرج. فالعنوان مُستمد من فكرة مجنونة طرأت على ذهن الفتاة «كوثر» الطالبة بالمعهد العالي للسينما، التي لم تتجاوز السابعة عشرة من عمرها، رأت من خلالها أن أجمل هدية تُقدمها لوالدها «مختار» في «20 سبتمبر»، الذي يوافق عيد ميلاده الخامس والسبعين، أن تُحقق له حلمه في لقاء الفتاة الإيطالية «باتريسيا»، التي ارتبط بها، وأحبها، أثناء دراسته في المركز التجريبي للسينما في روما، لكنه غادر العاصمة الإيطالية من دون أن يودعها، وبعد فترة من الزمن انقطعت حبال الود، وتوقفت رسائل الحب!

منذ الوهلة الأولى يُدرك المشاهد أن الفيلم سيرة ذاتية للمخرجة كوثر يونس، وأن «مختار» هو والدها مختار يونس المدرس في معهد السينما، وسرعان ما يجذبك الفيلم باضطراب رؤيته، وارتباك حركة الكاميرا فيه، بعد أن تعرف أنها طريقة التناول التي اختارتها المخرجة للتعبير عن الارتباك الذي يسود علاقتها ووالدها، والبراءة التي تميز شخصيتها، والحب الفطري الذي تكنه لأبيها، وقدرتها الفائقة على احتوائه في لحظات الغضب والثورة والقطيعة!

تحسم «كوثر» أمرها، وتبتاع بطاقتي سفر بالطائرة، وتفاجئ الأب بالقرار والتذكرتين، وكعادته يتردد ويُماطل، ويتذرع بأسباب واهية للتأجيل، لكن الفتاة تضعه أمام الأمر الواقع، بعد الحصول على التأشيرة، وبجرأة اعتادها جيلها تبلغ أمها بأن والدها سيرحل إلى إيطاليا للبحث عن حبيبته القديمة، وربما يتزوجها لو عثر عليها، وبروح وشخصية الأم المصرية الأصيلة ترحب الزوجة بقرار السفر لعله يُخلص الزوج من أعباء وهموم العمل، لكنها تُدرك في أعماق نفسها أن زوجها سيعود إلى أحضانها!

تفاصيل إنسانية رائعة، وروح تنبض بالشجن في مشاهد كثيرة من بينها مشاركة الفتاة والدها البحث في دفاتره القديمة عن ذكرياته مع «باتريسيا»، وبالفعل يعثر على قرطها الذهبي الذي طالبته بالاحتفاظ به، ورسائلها الغرامية، والكارت الشخصي الذي سطرت عليه، وبخطها، عنوانها في روما، فالفيلم يعتمد على بناء درامي أقرب إلى ذلك الذي نراه في الأفلام الروائية الطويلة، حيث التفصيلة أو المعلومة التي يُلقي بها ثم يعود ليستثمرها، وعنصر المفاجأة، فضلاً عن متعة الاكتشاف، وتصاعد الأحداث حتى تصل إلى الذروة وتختتم بالنهاية السعيدة، وهو ما رأيناه ماثلاً أمامنا في الفيلم التسجيلي «هدية من الماضي»، فالفتاة ووالدها في الطائرة المتجهة إلى إيطاليا، والإرهاق ينال منهما فينامان، وعند الوصول إلى مطار روما يُذكرانك بالصعيدي الذي هبط المدينة لأول مرة، وكلما رأى شيئاً أحمر ظنه صندوق البريد.لكن الأقدار تسوق إليها شاباً نصف مصري يساعدهما، وتستمر علاقته بهما بعد الوصول إلى الفندق، ويُصاب الأب وابنته بصدمة وخيبة أمل بعد اكتشاف رحيل «باتريسيا» عن المكان الذي كانت تعيش فيه، وتستشعر «كوثر» الحالة النفسانية المتردية التي وصل إليها والدها، فلا تألو جهداً في انتشاله من أزمته، وتوظف الهاتف النقال، ومواقع التواصل الاجتماعي، للبحث عن الحبيبة، وتصل الإثارة إلى ذروتها مع العثور على أكثر من «باتريسيا» غير أن «الهدف»، كما في أفلام الجاسوسية المثيرة، يلتقط الرسالة، ويتم التواصل، ويستعيد الأب عافيته، ويُصر على شراء هدية لحبيبة الماضي!

مشاهد مشحونة بالقلق والتوتر والإثارة والرقة فضلاً عن تلقائية المشاعر، وعفوية الحوار، فالارتجال سمة الموقف، والتصنع غائب تماماً، وهي سمات مميزة في الفيلم، لكن بدا اللقاء بين «مختار» و{باتريسيا» في المدينة النائية التي تعيش فيها، بارداً وفاتراً وأقل من المتوقع، ربما بسبب ما يقال عن المشاعر الباردة لأهل الغرب، وربما لأنها لم تنس سفره المفاجئ أو كونه امتنع عن الرد على رسائلها، لكن الأمر المؤكد أنها فرحت بالهدية كثيراً، وفرحت أكثر بدعوة الحبيب لزيارة مصر، نظير تحمله نفقات السفر والإقامة، وجاملت «كوثر» عندما عانقتها بحرارة، وأثنت على جمالها، لكنها لم تكلف نفسها دعوتهما إلى شراب في حانة أو أكل في مطعم، وتركتهما من دون أن تحملهما بسيارتها إلى محطة القطار، وربما لهذا السبب كانت «كوثر» ذكية عندما رصدت الدمعة التي سقطت من عيني والدها في قطار العودة!