نختتم رحلات المستشرقين إلى الشرق العربي الإسلامي، بجولة في كتاب «صوفيا لين بول» شقيقة المستشرق الإنكليزي المهموم بالشأن المصري، إدوارد وليم لين، الذي زار القاهرة مراراً، وخلفت تلك الزيارات عشرات الكتب، وضعها هو وكتيبة من تلاميذه وأحفاده، لكنه لم يتمكن ـ بسبب التقاليد الشرقية ـ من دخول جناح الحريم، أو معرفة ما يمكن معرفته عن عالم النساء في مصر، بين عشرينيات وثلاثينيات القرن التاسع عشر، فأقنع شقيقته «صوفيا» أن تأتي إلى القاهرة، لترى بعينيها عالم الحريم في مصر وتكتبه، على هيئة رسائل إلى صديقتها المقيمة في إنكلترا، والذي صدر عدة مرات تحت عنوان «حريم محمد علي باشا – رسائل من القاهرة (1842 – 1846)» وهو من ترجمة ودراسة د. عزة كرارة.

Ad

الكتاب عبارة عن مشاهدات للواقع المصري، قبل نحو مئتي عام بعين نسائية وعن الموضوع النسائي بالذات، في العالم العربي، نظراً إلى ما فيه من ملاحظات امرأة إنكليزية، كانت صائبة إلى حد كبير، بشأن واقعنا وواقع نسائنا.

تبدأ الكاتبة البريطانية ـ التي وصلت القاهرة يوليو 1842 ـ رحلتها من نهر النيل، فلكي تفهم كثيراً من عادات المصريين على مر العصور، لابد أن تذهب إلى ضفتي هذا النهر، مثلما اعتقد كل المستشرقين الكبار، الذين جاؤوا إلى مصر، ورصدوا حياة شعبها بعين منصفة، لم تخل أبداً من انحياز دائم إلى البسطاء، وبدت الكاتبة منذ سطورها الأولى كأنها تبحث في هذا النيل بالذات عن ملامح المصريات، اللائي يتحركن على ضفافه.

اختارت الكاتبة شكل كتابة الرسالة الأدبية، لإحدى صديقاتها في إنكلترا، فكل فصل في الكتاب هو رسالة من الكاتبة إلى صديقتها الإنكليزية، وفق المنهج الذي حرضها عليه شقيقها «إدوارد لين بول»، لكي تكون لديه عين نسائية ترى الجانب الآخر من المجتمع المصري، الذي كان يلهث وراء نجاحات محمد علي، ويعاني فيه البعض أيضاً مشكلات العالم الثالث، خصوصاً من مثلث «الفقر والجهل والمرض»، على الرغم من النهضة التي أقامها محمد علي للدولة المدنية في مصر.

الكاتبة كانت ـ إذن ـ جزءاً من مشروع كبير لشقيقها المهتم بالشأن المصري، جزءاً ضرورياً وملحاً ليتمكن من فهم المجتمع المصري وتفسير ظواهره الاجتماعية والتاريخية والدينية، بعد عامين اثنين فقط من توقيع «معاهدة لندن» عام 1840، بين الدولة العثمانية وأربع دول أوروبية هي: «الإمبراطورية الروسية» و{بروسيا» و«المملكة المتحدة» و{الإمبراطورية النمساوية»، للحد من توسعات محمد علي باشا، حاكم مصر، على حساب أراضي الدولة العثمانية، وقبيل نحو أربعين عاماً بالضبط، من احتلال الجيوش الإنكليزية لمصر، عام 1882.

العين النسائية كانت حاضرة في كل سطر من هذا الكتاب، خصوصاً من تلك اللحظة التي ركبت فيها «الصندل» الذي تجره الأحصنة، فقد بدأت رسالتها الأولى بالإشارة إلى أنه كان صندلاً كبيراً جداً وكانت له قمرتان واسعتان، وتقول بعين نسائية لماحة واصفة «الصندل»: فُرش بدُكك ومناضد وبدت نظيفة، وهناك أربعة من الخيل تجر «الصندل» بسرعة بالغة تمتعنا معها بالهواء الساري المنعش، الذي أوقعنا حينما جاء الليل في غلطة مؤسفة، إذ رقدنا طالبين الراحة، دون أن نسدل «الناموسيات» وكان أصحاب «الصندل» قد كسوا الدكك الواسعة بالبسط، تصوري مثل هذا السرير في مثل هذا الجو، لقد غطتنا البراغيث، وهجمت علينا الخنافس السوداء الضخمة التي لم أشاهد مثلها أبدا في إنكلترا، ندمنا بعد فوات الآوان على غلطتنا، وأنا أنصح بشدة كل مسافر إلى مصر أن ينام صيفاً وشتاء تحت «الناموسية»، طبعاً ـ وبدون شك ـ هناك شعور بالحر وضيق النفس، على الأقل لمدة ربع ساعة بعد زم الستائر، ولكن هذا هين إذا قورن بالهجوم المستمر للحشرات الطفيلية بأنواعها العجيبة على المسافر في هذه البلاد الشرقية، سوف تظل معنا لمدة طويلة ذكرى هذه الليلة الليلاء على متن «الصندل» بدون ناموسية».

تقول الكاتبة، إنهم في صباح اليوم التالي وصلوا إلى موقع اتصال القناة «ترعة المحمودية» بالنيل، ووجدوا أن السفينة التي سوف تقلهم إلى القاهرة قد أبحرت مع جماعة إلى مكان احتفال ما، ولن ترجع قبل بضعة أيام، تقول: «كان موقفاً لا نُحسد عليه من شدة المعاناة، فقد رسونا بين سلسلتين عاليتين من تلال الطمي المتراكم عند حفر القناة، وقد جف بالطبع وصار الغبار يتناثر في الجو بكثرة، كما اكتظت أيضاً فوق هذه التلال أكواخ، شيدت بالطمي، الحرارة قاسية، وسحب الغبار منعقدة، ورائحة المكان كريهة، وزحام المراكب و{الدهبيات، التي تحف بنا – لمدة يومين بليلتيهما – شديد، وليس باستطاعتنا عمل أي شيء لتحسين موقفنا إذ من الضروري أن نبقى بجانب مدخل القناة إلى حين وصول سفينة النيل، كان هذا الموقف أشد وطأة علينا من دوار البحر والمتاعب الأخرى التي صادفتنا من قبل في طريقنا إلى مصر».

«الحواية»

تحكي الكاتبة حكايتها لصديقتها الإنكليزية، حيث مروا في أول يوم بمدينة «فوه» القريبة من الإسكندرية، وتقول إنها  لمحت أحد عشر مسجداً بقبابها ومآذنها الطريفة، وكذلك بعض المصانع للحرف اليدوية، المساكن حقيرة، مضيفة أن المنظر العام بدا لطيفاً عن بعد، تكتب في رسالتها الأولى:

«المآذن مطلية بالجير الأبيض، والمنازل تنم عن عبق قديم، كانت بعض نساء وبنات المدينة على الشاطئ يملأن جرارهن وقت مرورنا، بينما آخريات يقمن بغسل الثياب، وعند الانتهاء من عملهن، تقوم كل واحدة بغسل يديها ووجهها وقدميها، ثم تقفل راجعة، و{الجرة» أو كومة الغسيل فوق رأسها، وتساعد «الحواية» (وهي قطعة من القماش ملفوفة على شكل حلقة توضع فوق الرأس) على انتصاب وضع «الجرة»، وكثيرا ما رأيت أثناء رحلتنا في ترعة المحمودية نساء يحملن جراراً كبيرة وثقيلة، معتدلة على رؤوسهن، دون الاستعانة بالأيدي».

تنشغل الكاتبة بدرجة جمال النساء في الشارع وبملابسهن التي تقول إنها تشبه ملابس الرجل تماماً، في الطبقات الفقيرة تحديداً، تقول إن «فوه» مثل «مطوبس» ـ المجاورة لها ـ مشهورة بجمال نسائها، وتضيف : «على العموم أرى أن الطبقات الدنيا عادة قبيحة جداً، رداؤهن المعتاد (في الغالب القطعة الوحيدة من الملبس الذي يرتدينه بخلاف طرحة فوق الرأس) عبارة عن جلباب بسيط أزرق لا يختلف كثيراً عن جلباب الرجال، وهو أيضا غالباً أزرق اللون، ومن العادات الشائعة بين النساء المصريات من هذه الطبقة أن يضعن الوشم الأزرق على بعض الأجزاء من أجسامهن خصوصاً المنطقة الأمامية من الذقن والشفتين، كما أن الكثيرات منهن يقلدن نساء الطبقة العليا بأن يصبغن أظافرهن بالحناء الحمراء، وهن أيضاً يصففن شعورهن على شكل ضفائر رفيعة، تتدلى على ظهورهن، لا يجب أن أغفل عن ذكر ما تشتهر به «فوه» من حسن مذاق ثمار الرمان الموجودة فيها بكثرة».

تقول إن شطي القناة عند سريانها على طول البرزخ الضيق من الأرض بين ملاحات مريوط وأبي قير، يتكونان من كتل ضخمة من الحجر تمنع إلى حد ما، تسرب الماء المالح إلى ترعة المحمودية ـ التي حملت اسم السلطان العثماني «السلطان محمود» ـ التي تمد صهاريج الإسكندرية بالماء، وتضيف: «تم استخدام أكثر من ثلاثمائة ألف رجل لحفر هذه الترعة، ويقال إن ما يقرب من اثني عشر ألفاً منهم لقوا حتفهم، خلال عشرة أشهر، أكثرهم نتيجة للمعاملة القاسية والعمل المضني وقلة الطعام المغذي والماء النقي، حيث كانت معداتهم الوحيدة للعمل هي «الفؤوس» ـ جمع فأس ـ التي تستخدم بكثرة في الفلاحة المصرية، وحينما تكون الأرض مبللة، يجرفونها بأيديهم ويحملونها في «مقاطف»، ويبلغ طول القناة حوالي خمسين ميلاً بريطانياً، وعرضها حوالي ثمانين أو تسعين قدماً، كانت بداية ونهاية العمل فيها عام 1819».

أطلال «سايس»

لم تشأ الكاتبة أن تفوت الفرصة للحديث مع صديقتها الإنكليزية عن التراث الفرعوني في مصر، عن الكنوز التي تلقى عليها القمامة والقاذورات وعن الأماكن التراثية المهملة التي صادفتها على الطريق إلى القاهرة، تحكي أنهم حين مروا على مدينة «سايس» المشهورة، التي كانت العاصمة القديمة للدلتا، ومن أشهر مدن مصر، وهي تعرف الآن باسم «صان الحجر»، تذكروا أنها مسقط رأس «كيكروبس»، الذي تنقل روايات عن أنه قاد جماعة من أهل «سايس» إلى «أتيكا» في اليونان حوالي 1556 سنة قبل الميلاد، حيث أسس مدينة أثينا، وأقام بها عبادة مينرفا (نيت المصرية) التي كانت الإلهة الحارسة لبلده.

ووفقاً لباحثين معاصرين، تعتبر منطقة «صان الحجر» من أشهر مناطق مصر في فترة حكم  الأسرات، حيث كانت عاصمة مصر خلال حكم الأسرتين 21 و23، وتضم نحو 5 معابد لملوك الفراعنة، وعدة مقابر لملوك، والاسم اليوناني هو «تانيس»، أما الاسم الفرعوني فهو «ممفيس طيبة».

تقول الكاتبة إن منطقة آثار صان الحجر كانت مكاناً «مختنق تماماً بالقاذورات» حين زارته في منتصف القرن التاسع عشر، وشددت حتى على أنه لا جدوى إطلاقاً من زيارة أطلاله، التي لو بدأت فيها الحفائر سوف تنتهي إلى اكتشافات مهمة، وتتذكر ما أشار إليه المؤرخ القديم «هيرودوت» حين قال إن المدينة تحتوي معبداً سماه «المنوليشي»، وأنه أروع المعالم الموجودة في ذلك الوقت، لكنها تتذكر أيضاً وبكل حسرة ما وصلت إليه الأمور من انهيار.

تقول الكاتبة: «أطلال سايس تبدو من النهر مثل كثبان عالية ممتدة على مساحة واسعة من الأرض، تتألف عادة من أفنية واسعة، طول كل منها حوالي نصف ميل ومثلها في العرض وسياجها عبارة عن جدران هائلة الأبعاد يبلغ سمكها حوالي خمسين قدماً وارتفاعها أكثر بكثير، كما يتبين في عدة أماكن، وقد شيدت من الطوب اللبن طول القالب الواحد حوالي خمس عشرة أو ست عشرة بوصة، وثمان في العرض، وسبع في السمك، ولقد سببت الأمطار، التي يندر سقوطها حتى في هذه المنطقة من مصر تآكل هذه الجدران، فلا تكاد تميز من القاذورات التي اندثرت تقريباً كلية فيها، ولا يرى داخل السياج سوى بعض القطع الضخمة من الحجارة، وبقايا بعض الأبنية من الطوب اللبن، ربما كانت مقابر أو أضرحة، اكتشفت، ونهبت، وكان في هذا المكان المعبد الشهير للإلهة «مينرفا» المصرية الذي يذكر هيرودوت أن مدخله كان يفوق في ضخامة أبعاده أي بناء آخر من هذا النوع».

تقول الكاتبة أيضاً إن المنطقة تحتوي عدة معابد يضم بعضها تماثيل عملاقة ضخمة منها ما هو على هيئة «أبي الهول»، كما كانت تحتوي مسلات شامخة مقامة داخل السياج المقدس على مقربة من بحيرة دائرية الشكل مكسوة بالحجر، وفي الصدارة كان «المعبد المنوليشي»، الذي سبق أن ذكرته، وبلغ طوله إحدى وعشرين ذراعاً، وعرضه أربع عشرة، وارتفاعه ثماني أذرع، كما تشير إلى أن المؤرخ الذي كان يصطحبهم ويحكي لهم أسرار التاريخ الفرعوني وقد كان مصرياً رفض أن يذكر لهم اسم صاحب أحد هذه المعابد، وحين وصل الحديث إلى إحدى البحيرات المقدسة، التي كانت مسرحاً للعروض الليلية لطقوس الأسرار المهيبة المتصلة بالشخصية التي لم يذكر اسمها المؤرخ، توقعت الكاتبة أن يكون «أوزوريس»، وتضيف: «كان المصريون بدافع من الرهبة الدينية، يمتنعون عن ذكر اسم هذا الإله الفرعوني القديم، وعديد من المدن الأخرى في مصر كانت تتنازع شرف احتواء رفات أوزوريس، وجميع الفراعنة الذين ولدوا في هذه المنطقة، دفنوا داخل السياج المحيط بصرح «سايس»، وقد شيد واحد من هؤلاء الملوك، ويدعى «أبريس»، قصرا منيفاً، وكان الاحتفال الديني الذي يقام في سايس إجلالاً للمعبودة «نيت»، كما أن بعض احتفالات سايس كانت تعرف باسم «احتفال القناديل المتقدة» إذ كان من علامات الاحتفال بهذا العيد أن تعلق القناديل والمسارج المضاءة ليس حول منازل هذه المدينة فحسب، بل في أرجاء مصر كلها».

تختتم الكاتبة رسالتها الأولى إلى صديقتها الإنكليزية، بإشارة مهمة جداً إلى مدى تمتع المصريين بالحرية الشخصية في زمن محمد علي وربما من قبله، حيث تذكر الكاتبة أن المصريين يمارسون أنواعاً من الرقص والسهر رجالاً ونساء بغرض الترفيه، مشيرة إلى أن ما يفعله المصريون من مرح، يشبه ما كان من  «السكندريين القدماء» على حد وصفها، تقول:

«كانت أعداد لا تحصى من الزوارق تغطي صفحة القناة ليل نهار، تحمل الحجاج من الجنسين، وهم يرقصون ويغنون ويسكرون ويستبيحون لأنفسهم كل الموبقات التي سمحت بها الحرية الدينية قديماً، وكذلك في وقتنا الحاضر، تتوافد جماهير الرجال – من سكان عاصمة مصر وأماكن أخرى – ومعهم عدد كبير من الغانيات إلى الاحتفالات بذكرى مولد السيد أحمد البدوي في طنطا بالدلتا، حيث يعج المكان بالراقصات والمغنيات اللاتي يقمن بالترفيه عنهم وتسليتهم، وحيث سمعت أن الخمور تحتسى  بوفرة وحرية، وكأنها القهوة».

فن شرقي

على الرغم من إيمان الكاتب المطلق بالحرية التي يتمتع بها رواد المقاهي الشرقية، فإنه يلفت كثيرا إلى أن ارتياد المقهى يعتبر كأنه عمل مذموم، وأن كل الذين يقضون فيها ساعات طويلة هادئة هم بالضرورة عاطلون ومتطفلون، وأن الطبقات السفلى من المجتمع هي الوحيدة التي تأتي إليها.

يروي الكاتب نقلا عن الفونس دوديه، الذي زار الجزائر سنة 1870، وعبر في كتابه «أقاصيص يوم الاثنين» عن معنى تلك الأماكن التي ترمز إلى فن من فنون الحياة، هو الفن الشرقي، وإلى عقلية حضارة من الحضارات، قائلا:

«المقهى القريبة إنما هي صالون استقبال لأصحاب القصور العربية، بيت داخل البيت، مخصص للضيوف العابرة، يجد فيها هؤلاء المسلمون الكرماء جدا والمهذبون جدا الوسيلة التي تتيح لهم مزاولة أفضالهم الكريمة، محتفظين في نفس الوقت بالصلة الأسرية التي يتطلبها القانون، والمقهى المغربية لصاحبها الأغاسي سليمان كانت مفتوحة، يخيم عليها الصمت كإسطبلاته، جدرانها عالية ومطلية بالجير، ومجموعة الأسلحة التذكارية، وريش النعام، والكنبة العريضة المنخفضة الممتدة بطول القاعة، كل ذلك يرشح تحت سيول المطر التي يدفعها الريح من الباب، ومع ذلك فقد كان هناك حشد من الناس في المقهى، وعاد القهوجي وأشعل موقده ووضع فوقه تنكتين صغيرتين».

يقول الكاتب إن المقاهي حلت محل صورة معكوسة لبلاط السلطان الباذخ، أو بالأحرى، انعكاس ساخر للثقافة العالية التي توجد هي الأخرى في السرايا، والفنانون الذين ظهروا في مناسبات تلك الأعياد لم يخلدهم التاريخ، ولكنهم نقلوا السمات الحية الثقافية التي لا تكف عن أن تثري من جيل إلى جيل.

الفاتحة

تقدم الكاتبة ملاحظاتها على سلوك المصريين في عهد محمد علي، وهي لا تدرك أن ما تصفه من سلوكيات استحسنتها في هذا الزمن البعيد سيظل ملتصقاً بأذهان المصريين وعاداتهن إلى اليوم، وهي كانت محقة إلى حد كبير، وهي ترصد حركة الحياة في مصر، وهي تتحرك تحت رعاية مجموعة من البريطانيين والمصريين في القاهرة، تقول إن سفينتهم وصلت بعد يومين، وأنهم شعروا بالسعادة وهم يغادرون ترعة «المحمودية» بمنظرها الذي تقول إنه «كئيب» نظراً لبؤس حالة فلاحيها، الذين يبدو عليهم «الفقر المدقع»، تقول إن أكواخ الفلاحين الطينية المتراكمة فوق بعضها، والتي يغلب عليها الشكل المستدير، تبدو في ضوء القمر كأنها أبراج قلاع «خربة».

تمتدح الكاتبة المصريين في أكثر من موضع ولأكثر من سبب، فهي ترى أن السفينة التي ركبوها في النيل للوصول إلى القاهرة، كانت تجنح في أوقات كثيرة لكن مهارة البحارة المصريين كانت تنقذ الموقف، تكتب في رسالتها قائلة: «لا يوجد اتصال بين القناة والنيل ولهذا سرنا مترجلين بضع دقائق بمحاذاة الشاطئ حتى وصلنا إلى السفينة، وغمرتنا السعادة حينما شعرنا عند دخولها بأرق نسيم يمكن تصوره، وبرؤية ضفاف خضراء (بالذات من ناحية الدلتا) لواحد من أشهر أنهار العالم، ولقد شيدت مراكب النيل بطريقة تناسب تماماً الملاحة في هذا النهر، فقلوعها الكبيرة المثلثة سهلة الاستخدام، وهذه ميزة عظيمة حين تهب العواصف الفجائية التي كثيراً ما تعترض سبيلها، حينذاك تضم القلوع في أقل من دقيقة واحدة، وإلا أطيح بالمركب، حدث كثيراً أن كان جانب من سفينتنا تحت الماء تماماً، ولكن مهارة الرجال تحول غالباً دون حدوث أية كارثة إلا في القليل النادر وبالذات حينما يكون السفر ليلاً، ولقد طلبنا ألا تسير سفينتنا في الليل، ولهذا استغرقت رحلتنا النيلية ثلاثة أيام».

تمتدح الكاتبة بصراحة، عادة تقول إن الفلاحين يتبعونها في بداية كل رحلة نيلية، وإن هذه العادة حازت إعجابها الشديد، لأنه في بداية رحلتهم إلى القاهرة، وبعدما امتلأ الشراع الكبير بالهواء، يصيح «ريس» المركب قائلاً بصوت جهوري «الفاتحة»، ثم يقوم هو وطاقمه، بصوت جماعي خافت، بتلاوة السورة، تكتب لصديقتها قائلة: «يا ليت شعبنا ينهج نهج المسلمين في هذا المجال، ويعترف الجميع أن مصيرنا في يد الله وحده، وأن كل سفر، وكل رحلة يجب أن تباركها العناية الإلهية».

وصل الموكب ـ بحسب الرسالة التي تدون فيها اليوميات المصرية - إلى قرية شبراخيت بعد المغرب، ووفقاً لنصيحة الملاحين، بقوا هناك حتى الصباح، لكن بسطاء المصريين الذين يسكنون شبراخيت ظلوا يحاولون لفت أنظار الأجانب، وهي تصف ذلك مذهولة في رسالتها: «شد انتباهنا الفلاحون، وهم يقومون بأعمالهم المختلفة بخمول واضح، كنا نرى أثناء رحلتنا بعض هؤلاء المساكين، يقتربون من السفينة، وكأنهم يجلسون منتصبين على الماء، يجدفون بأقدامهم، ويحمل كل واحد منهم ثلاث بطيخات، واحدة في كل يد، وواحدة فوق الرأس، طريقتهم في السباحة غاية في الغرابة، ولكنها تبدو مريحة بالنسبة لهم».