شهد العام الحالي صدور العديد من التشريعات المهمة التي تناولت قضايا الأمن والمجتمع والحريات والتطور التكنولوجي، وستلقى تلك القوانين آثارها قريبا، خصوصا أن بعضها دخل حيز التنفيذ مؤخرا، والآخر سيدخل خلال الأشهر القليلة المقبلة.

Ad

ومن أبرز التشريعات التي أصدرها مجلس الأمة هذا العام، تحت دواعي الأمن، قانون البصمة، الذي نوقش تحديدا على خلفية واقعة التفجير الإرهابي لمسجد الإمام الصادق الذي أودى بحياة ٢٧ مواطنا ومقيما وإصابة ما يقارب ٢٠٠ كانوا يؤدون صلاة الجمعة، ولم يأخذ هذا القانون حقه بالنقاش والبحث من الإخوة أعضاء مجلس الأمة، خصوصا أنه يتضمن عقوبة على من يمتنع من مواطنين ومقيمين وزائرين، عن إجراء تلك البصمة، والتي تتطلب أن يخضع كل شخص نفسه لأجهزة وزارة الداخلية حتى تأخذ ما تشاء من عينات تحفظها في أجهزتها، وإلا فإنه سيحاسب جراء رفضه لذلك، وسيتعرض للحبس والغرامة بدعوة التنظيم!

يقوم قانون البصمة الوراثية على فكرة الإجبار لأخذ عينات من المواطنين والمقيمين والزائرين، وإلا فإن هناك عقوبة ومحاكمة تنتظر الممتنع، وربما يسبقها تعطيل تنقلاته خارج البلاد عبر منع استخراج جواز سفره أو وقف تجديد إقامة من يعملون لديه، وربما وقف كل معاملاته لدى الوزارة أو غيرها من الوزارات، وصولا إلى فكرة إخضاع المواطن أو المقيم لإجراء البصمة، مع إحالة ملفه إلى القضاء لمحاكمته عن تهمة الامتناع عن عرض نفسه أمام وزارة الداخلية لأخذ كل العينات التي تريد أخذها وتحتفظ بها، لتعرف أصولك وفروعك وربما صحة الأنساب، وغيرها من مسائل يكشفها الفحص، وتعد من قبيل أسرار الفرد وخصوصياته، وهي مسائل لا يجوز الاطلاع عليها ولا يجوز أن تنتهك، ولا تكون عرضة حتى للاحتفاظ بها نظرا لخطورتها!

الغريب في القانون الصادر من مجلس الأمة أنه لم يحدد صور الإجبار أو الحالات التي أراد تنظيمها، والتي من أجلها نظم قانون البصمة الوراثية ليعالجها، وإنما فوض السلطة التنفيذية تحديد صور التنظيم والحالات التي تريد السلطة التنفيذية إخضاع المواطنين والمقيمين لها لأخذ البصمة منهم، وإلا تعرضوا للمساءلة القانونية والحبس والغرامة، بينما أكد الدستور أنه لا جريمة ولا عقوبة إلا بناء على القانون، بينما قانون البصمة يفوض الحكومة تحديد السلوك الإجرامي الذي تريد تقريره وتحديد صوره، في تصرف غريب من المشرع يثير شبهة مخالفة نص المادتين ٣٢ و٥٠ من الدستور.

الأمر الآخر الذي يتعين بحثه، وهو مدى جواز قيام الدولة على إكراه الفرد بدنيا بأخذ عينات من جسده، أو معنويا بتهديده بالتحقيق والحبس والغرامة إذا امتنع عن القيام بعرض نفسه لأجهزة الأمن لأخذ عينات تكشف جيناته وبياناته وأنسابه، وتكشف خصوصياته، وتنال من أسراره اللصيقة به؟ وهل يقبل الدستور بهذا الإكراه، وهو من يؤكد بالفقرة الثانية من المادة ٣٤ منه أنه يحظر إيذاءه جسمانيا أو معنويا؟ في حين يسمح هذا القانون بفكرة الإكراه!

وهل يقبل الدستور بقانون يناقض مبدأ الأصل في الإنسان البراءة، الذي كفلته الفقرة الأولى من المادة ٣٤ منه، ويجعل الجميع متهمين، على أن يتم إعفاؤهم من العقاب إذا نفذوا الفحص المقرر عليهم من وزارة الداخلية، وإلا تعرضوا للعقاب؟! وهل يقبل الدستور بفكرة الإجبار على عمل معين، وهو من يؤكد في أكثر من مادة من نصوصه على رفضه فكرة الاعتداء على خصوصيات الأفراد والحفاظ على أسرارهم، وكفالته حقهم في اختيار العمل واختيار الانضمام للجمعية التي يريدون أن ينتسبوا لها، ورفضه فكرة الإجبار على أداء عمل معين إلا لضرورة قومية وبمقابل عادل!

فحص البصمة الوراثية لا يعتد به في القضايا الجزائية إذا تعارض كدليل فني مع دليل فني، كما لا تأخذ به المحاكم ولا تلفت إليه إذا انتهى إلى نتيجة التعذر للتعرف على الحالة المطلوب البيان عنها، كما لا يؤخذ به كدليل في قضايا إثبات النسب بقضايا الأحوال الشخصية التي تعتمد بالإقرار والبينة وشهادة الشهود، ولا تعتد به كدليل تعتمده محاكم الأحوال الشخصية، ويبقى أن الحاجة له يجب أن تكون منظمة ومقننة وفي حالات ضيقة تبررها وتكون بعيدة عن فكرة الإجبار.