يبدو لي أن إيمان البشرية العام بخلودها هو سر كل المآسي التي تصنعها هذه البشرية، هو سر جشعها الذي يمتد إلى ما بعد الحياة الحالية، هو سر التناقض الذي تعيشه بين العمل لحياة لا تعتقدها تنتهي والتكسب لآخرة تعتقدها آتية في أي لحظة. لربما يفلسفها البعض أن لولا الإيمان بالحياة الآخرة لارتكب البشر المزيد من الأذى، ولما خشوا شيئاً في تطاحنهم المستمر من أجل حياة دنيوية أكثر رفاهية، إلا أنني أعتقد أن العكس هو الأصح، فلو آمن البشر بانعدام الهدف والمعنى والمغزى من الحياة، لو أنهم اعتقدوا حقيقة بوقتية الأرض والبشرية في هذا الكون الأزلي، لو استطاعوا فعلاً هضم فكرة اختفاء الأرض والمليارات من الكواكب والنجوم مثلها دون أي نتائج تذكر، دون أن تهتز لأزلية الكون شعرة، دون أن يتحقق هدف أسمى ودون أن يتجلى معنى أعمق، لربما عاشوا بطريقة أفضل وأكثر رحمة، لربما عاشوا كل دقيقة من أجلها فقط، لربما انتفت أطماعهم وخفتت شهوتهم المستمرة لخلود يحاولون تحقيقه بتخريب هذه الحياة وهدرها.
ليس ما يعنيني هنا حقيقية الخلود أو العدمية، واقعية المعنى والمغزى والهدف، لست أناقش الرأي الثيولوجي حولهم ولا النظرة العلمية لهم، ما أقوله ببساطة هو أن اعتقاد البشر بوجود نوع من الاستمرارية لهم، بغض النظر عن حقيقة هذا الاعتقاد من عدمها، قد فتح شهيتهم ونكأ جشعهم وشكل من غاياتهم تبريرات للوسائل التي يتبعونها. لو أننا كنا نعتقد أن حافة الحياة هي الموت، أن العلاقة بيننا وبين أجسادنا تنتهي بتوقفها البيولوجي، أن كل ما نملك هو وقت لحظي على الأرض، لا شيء قبله ولا شيء بعده، وأنه بعد خمسة بليونات من السنوات على أبعد تقدير، لن تكون هناك أرض ولا بشر ولا تاريخ ولا وعي يستمر جنسنا من خلاله ولو على شكل ذكرى، لو أننا كنا نعتقد بكل ذلك لربما كنا سنعيش بطريقة مختلفة، ولربما فلسفنا وجودنا وأهدافنا وغاياتنا بشكل أكثر واقعية، ولربما نفذناها جميعاً بشكل أكثر رحمة.إن أحد أهم نتائج الاعتقاد بأزليتنا واستمرارية جنسنا هو الطمع المتوحش. الكل يرغب في أن يترك ميراثاً لسلالته من بعده، إن كانت على شكل أموال أو أفعال أو سمعة من نوع، شيء ما يضمن استمراريته الدنيوية، شيء ما يراقبه ويناظره وهو في عليائه الأخروي الأبدي. ولو كان هذا الإنسان يعتقد بفنائه وفناء بني جنسه لما سعى إلى تأمين نفسه وسلالته من بعده بوحشية، لما برر وسائله القبيحة بغاياته المخلدة، لما خاض الحروب وأسال الدماء لأن غاياته الأخروية التي يؤمن هو بأنها الحقيقة المطلقة تبرر وسائله العنيفة التي يراها ضرورة ملحة، ويعتقد ضحاياها «خسائر حرب» لابد منها لتحقيق الهدف الأسمى والأهم. لو أنها تحققت هذه «اللو» لربما كنا كلنا عشنا اللحظة، ولربما كنا كلنا عشناها بشرف، دون أن تثقلنا أبدية لسنا مصنوعين بأجساد وعقول تتحملها، ودون أن توحشنا غايات وأطماع لسنا مهيئين بأعمارنا القصيرة لأن ندركها. لو كنا نؤمن أن الدنيا لحظة وأن الوجود مصادفة وأن الخلود خدعة، لما شرد بعضنا بعضا ولما قتلنا إيلان الصغير ثم بكيناه على السواحل التركية. فقط لو.
مقالات
لـــو
12-10-2015