امتلاك الخميني قدرة قيادية فائقة وذكاء وقادا، بالإضافة إلى اهتمامه الكبير بفكرة «ولاية الفقيه» في مرحلة كان فكر الحوزات الدينية الشيعية يؤجل الإصلاح السياسي لحين خروج الإمام المهدي لتولي أمر المسلمين، واستعانته في نجاح أمره بالكتمان ومباغتة منافسيه في الساحة الإيرانية، أمور ساعدت على تمكينه من إحكام قبضته على مفاصل الدولة.

Ad

لم تكن المفاجأة في إيران آنذاك- عام 1979- الثورة ضد «النظام الشاهنشاهي»، كما كان يسمى النظام الملكي في إيران، بل المفاجأة كما يقول د. إسماعيل الشطي «كانت في اقتطاف الخميني لثمرة الثورة، فمنذ عام 1977 وإيران كانت تموج بالاحتجاجات والمظاهرات والاعتصامات بقيادة النخب المثقفة وأحزاب المعارضة، وكان على رأسها حركة مجاهدي خلق اليسارية وحزب تودة الشيوعي وحركة تحرير إيران الليبرالية».

(الإسلاميون وحكم الدولة الحديثة، الكويت 2013، ص99).

ويضيف د. الشطي أن الخميني كان قد نشأ يتيم الوالدين بعد وفاة والديه، وعاش في البيئة الفقهية منذ صغره متتلمذا على يد آية الله الشيخ عبدالكريم الحائري اليزدي، وقد ضاعف اهتمامه بالسياسة ربما مقتل والده وابنه، ويلاحظ د. الشطي «أن الخميني لم يكن الأكثر فقهاً وعلماً بين مراجع التقليد المعاصرين له»، أي كبار علماء الفقه الشيعة في المدارس الدينية المسماة بالحوزات، «لكنه بالتأكيد كانت لديه قدرة قيادية فائقة وذكاء وقاد لم تتوافر لأي مرجع في زمنه».

 ولعل من أهم جوانب ذكائه وفطنته، اهتمامه الكبير بفكرة «ولاية الفقيه» في مرحلة كان فكر الحوزات الدينية الشيعية يؤجل الإصلاح السياسي لحين خروج الإمام المهدي لتولي أمر المسلمين، وكانت المراجع الدينية تفضل عدم الاصطدام بالحكومات ما لم تتحرش بالمرجعية، وكانت فكرة ولاية الفقيه موجودة في الوسط الفقهي، لكنها «لم تأخذ حظاً كبيرا من النقاش والدراسة قبل أن يطرحها الخميني».

استعان آية الله الخميني في نجاح أمره بالكتمان ومباغتة منافسيه في الساحة الإيرانية، فيقول د. الشطي في أثناء الثورة «لم يكن يدعو إلى حكومة إسلامية، بل كان على العكس يدعو لحكومة جمهورية واقعية مستندة إلى حقوق الإنسان، كما ذكر المعارض الإيراني «أكبر غنجي»، ولم يتطرق لموضوع الحكومة الإسلامية إلا بعد ثمانية أشهر من انتصار الثورة».

 ولم تمر القضية يومذاك بسلام، إذ يضيف د. الشطي «يومها واجه معارضة صلبة من كثير من المراجع الذين آثر بعضهم الصمت أو التحفظ بعدما لقن الخميني أكبر معارضيه درسا قاسيا، حيث أرسل لآية الله شريعتمداري كبير المراجع في قم آنذاك عشرة آلاف شخص من أتباعه يحملون العصي والهراوات، ويهتفون بعمالة شريعتمداري ويشيرون إلى بيته كوكر للتجسس، وحدث قتال بين أنصار المرجعين أدى إلى مقتل اثنين من المتقاتلين، وبعدها بقي شريعتمداري في بيته تحت الإقامة الجبرية إلى أن مات، والمثال الآخر كان آية الله حسن الطباطبائي القمي في خراسان والذي عارض نظرية ولاية الفقيه بصلابة وعناد؛ مما عرضه للاضطهاد والسجن، لقد أعطى الخميني درسا لبقية المراجع الذين أرادوا الوقوف ضد ولايته ليعلموا أن مصير الإمام شريعتمداري سيكون مصيرهم إذا ما أرادوا الوقوف ضد رغبته، وهو ما خفف من نبرة المعارضة لدى بقية المراجع». (د. الشطي، ص109).

ولكن هذه التهديدات لم تغير مواقف آخرين كانوا خارج إيران، ممن انتقدوا استغلال هذا المبدأ الفقهي، وبخاصة آية الله أبو القاسم الخوئي، كبير المراجع في حوزة النجف، وكل من آية الله محمد حسين فضل الله والشيخ محمد مهدي شمس الدين، في لبنان وإلى جانب الاعتراضات الفقهية تم انتقاد المبدأ من الناحية السياسية، حيث وجد منتقدوها «أن هذه النظرية تكرس الحكم الفردي وتمنحه سلطات مطلقة باسم الدين ليصبح حاكماً بأمر الله، وتعيد السلطة الكنسية المعروفة بالقرون الوسطى في أوروبا ولكن بثوب إسلامي». (د. الشطي، ص110).

 كان تثبيت نظام ولاية الفقيه بحاجة ماسة إلى تحييد كل الخصوم المحتملين لها في تلك المرحلة الجنينية، وهنا لجأت قيادة الثورة إلى عدة مناورات، ويقول د. الشطي «كانت إزاحة شاه إيران ونظامه هي الهدف المشترك لكل فصائل الثورة الإيرانية، ولكنهم كانوا يختلفون فيما بعد ذلك اختلافا كبيرا، وهو ما دفع بذكاء الخميني إلى أن يؤجل البحث في التفصيلات -التي تفكك جبهة الثورة- حتى تحقيق الهدف المشترك، وكان يطمئن المتشككين بأن المراجع الدينية لا تتطلع للحكم، وفي الفترة التي أعقبت سقوط نظام الشاه انكشفت الخلافات بين كل التيارات الثائرة، وبدأ التنافس بينها لتفسير أهداف الثورة، منهم من كان يقول إنها إنهاء للاستبداد، ومنهم من كان يطالب بمزيد من الإسلام، ومنهم من يكتفي بالحد من التأثير الغربي الأميركي، وآخرون يطالبون بالعدالة الاجتماعية والمساواة، غير أن كل هؤلاء لم يتوافر لهم ما توافر للتيار الديني من طريق ممهد لاستلام السلطة، إذ بادر الخميني في البداية لطمأنة الآخرين بتعيينه مهدي بازركان الليبرالي الإسلامي رئيسا للوزراء، والذي سعى لإنشاء حكومة إصلاحية ديمقراطية، كان الخميني يؤسس مركزا آخر للسلطة بديلا للحكومة وهي المنظمات الثورية التي اعتمد عليها لحماية سلطته، مثل الحرس الثوري والمحكمة الثورية والخلايا الثورية المحلية التي تحولت إلى لجان محلية».(ص113).

 إن عدم الخوص في التفاصيل والبرامج العملية مناورة معروفة في التكتيك الإسلامي السياسي، ولا تزال بل ربما تلجأ إليها تيارات أخرى غير إسلامية، إلا أن الملامح الدكتاتورية للنظام سرعان ما تجلت في دستور «الجمهورية» نفسه.

ويقول د. الشطي إن الصلاحيات التي منحها الخميني لنفسه ولأي «ولي فقيه» يأتي من بعده، وفق الدستور الإيراني، «لم تتوافر لأحد سوى للأنبياء وللأئمة المعصومين في العقيدة الاثني عشرية، ولهذا يعتقد بعض المفكرين الشيعة الذين انتقدوا هذه الصلاحيات أن الخميني كان يعتقد أن منصب القائد العام للدولة أو المرشد الروحي ما هو إلا منصب نائب الإمام الغائب وليس مجرد ولاية فقيه، ويعود جذر المشكلة إلى أن الإمام الخميني لا يعتبر شرعية الفقيه في الحكم مستمدة من الأمة، وإنما هو منصوب ومجعول ومعين من قبل الإمام المهدي أو الأئمة السابقين، ولذلك فإنه ليس بحاجة إلى أخذ رضا الأمة في أية مسألة، وله الحق أن يعمل بما يتوصل إليه في اجتهاده، وعلى الأمة أن تطيعه بلا مناقشة أو تردد، وهو ما يمنحه صلاحيات مطلقة أخرى، لذلك كان يعتقد أن منصبه يمنحه السلطة على كل الشيعة في العالم، ولهذا تعجب من موقف الشيعة بالعراق إبان الحرب العراقية الإيرانية، إذ إنه أصدر في شهر يناير 1981 فتوى لشيعة العراق يحثهم فيها على الثورة ضد الحرب وعصيان الأوامر العسكرية، لكن شيعة العراق لم يتحركوا، مما جعله يتساءل باستغراب ويقول لبني صدر: عجيب أمر هؤلاء العراقيين ألا يوجد بالجيش العراقي شيعة؟». (ص121-122).

والواقع أن وحدة المذهب بين شيعة العراق العرب وشيعة إيران لم تتمكن من تجسير الفجوة بينهما. ويقول د. الشطي: «خلال لقاءاتي التي أجريتها في طهران مع أعضاء حزب الدعوة العراقيين اللاجئين إلى إيران، تحدثوا بمرارة بالغة عن النزعة الفارسية التي تطغى على تعامل الشيعة الإيرانيين مع الشيعة العرب، ولقد أكد لي ذلك في أكثر من لقاء سماحة السيد آية الله محمد باقر الحكيم رحمة الله عليه». (ص127).

وفي تقييمه لمشروع أسلمة دولة إيران أشاد الشطي رغم كل ملاحظاته على التجربة الإيرانية، بدور آية الله الخميني في أسلمة دولة معاصرة، رغم أن هذه التجربة الناجحة «جاءت على يد رجل دين يقضي معظم وقته في حوزته العلمية، ويلتقى بأقرانه أو مقلديه أو أنصاره، ومعرفته بالسياسة الدولية محدودة وخبرته بصناعة الأنظمة السياسية وإدارة الدولة قليلة».

ورغم الأخطاء والمآخذ التي رافقت الثورة، يرى د. الشطي «أن كل ذلك لا يقلل من أهمية تلك المحاولة ولا من ريادة صاحبها، فيكفي الإمام الخميني أن يكون له- على مستوى التاريخ- شرف السبق والمحاولة بغض النظر عن كل ما يذكر عنه من سلبيات أو إيجابيات». غير أن د. الشطي لا يمنح آية الله الخميني «صك غفران»، ويعتبره مسؤولا عن جريرة كبرى بحق التيار الإسلامي! فيقول: «لقد أحكم الخميني حلقاته على الشعب الإيراني ليبقيه أسيرا لنظامه، ورغم أنه نجح وحقق مبتغاه لكنه سبب خسارة فادحة لكل الإسلاميين السياسيين بالعالم، إذ لم تعد الأطياف السياسية في العالم الإسلامي تثق بالتيارات الإسلامية السياسية بعد تجربة الخميني، فقد استغل الخميني ثقة الأطياف السياسية به وبتسليمه زمام الأمور ليغدر بها ويختطف الثورة والوطن معا، إن تجربة الخميني حفرت الشك العميق في نفوس النخب السياسية ضد الإسلاميين ونواياهم ومدى جديتهم في التعايش مع الآخر، إذ أصابت صدقيتهم وموثوقيتهم لدى الآخرين بمقتل غائر، وهو ما برز خلال ثورات- ما أطلق عليه- بالربيع العربي». (ص142).