يبدو أن فنزويلا تمضي نحو مستويات عالية من التضخم، أو ربما سقطت أساساً في الهاوية، وفي ضوء ندرة المعلومات الرسمية التي صدر آخرها في فبراير الماضي تصبح الصورة جلية الى حد كبير، والتخمين الأفضل المتوافر لدينا حول قيمة العملة الفنزويلية يأتي من قرية كاكوتا الكولومبية، حيث يتوجه الناس إلى شراء العملة كي يتمكنوا من تهريب الوقود المدعوم من الدولة، وغير ذلك من البضائع التي يخضع سعرها للرقابة إلى خارج فنزويلا.
وكما قالت مجلة الإيكونوميست فإن "الصفقات قليلة، ويتم حساب الدولار الأميركي بصورة غير مباشرة، من قيمة البيزو الكولومبي، وتكون النتيجة غريبة، ولكنها أكثر واقعية من المعدلات الرسمية".وقد أبلغ الاقتصادي ستيف هانك وكالة بلومبرغ، في الآونة الأخيرة، أن استخدام تلك المعدلات يبرز أن الزيادة في تكاليف المعيشة تصل الى 722 في المئة، وهو ما يعني أن فاتورة البقالة الشهرية التي تبلغ 400 دولار سوف تقفز الى 2888 دولاراً خلال سنة واحدة، وقد لا يقارب ذلك الوضع الأسطوري للتضخم في هنغاريا في فترة ما بعد الحرب الذي وصل الى 41.9 كدريليون في المئة ( رقم يتم وضع 15 صفراً إلى جانبه) خلال شهر، ولكن تلك الحصيلة تعتبر مدمرة بالنسبة إلى الموفرين، أو الى المتقاعدين الذين يتكون دخلهم من دفعات ثابتة ومحددة، وذلك سيئ جداً بالنسبة الى الاقتصاد أيضاً.الخطوات الغامضةحدوث هذه الأشياء ينطوي على بعض الغموض، وذلك لأن الحكومة تطبع كميات كبيرة من الأوراق النقدية، وفي حقيقة الأمر، وكما قال ميلتون فريدمان: "التضخم هو ظاهرة نقدية في كل مكان وعلى الدوام"، وعندما تتركز كمية كبيرة من المال على قلة من البضائع ترتفع الأسعار، ثم إن المصدر الأكثر انتشاراً لكثرة المال هو مطابع الحكومة.ولكنني لا أسأل عن الآلية هنا، بل عن السبب، والسؤال الذي يطرح نفسه الآن هو: لماذا تعمد حكومة فنزويلا إلى طباعة الأوراق النقدية؟والجواب هو "سينيوراج "، وهي الكلمة التي تطلق على الربح الذي تحققه الحكومة من وراء طباعة الأوراق النقدية، وإذا كان في وسعك شراء المزيد من السلع والخدمات عن طريق النقد الذي حققته بقدر يفوق التكلفة اللازمة لصنعها تكون بشكل أساسي قد جمعت نوعاً خفياً من الضرائب عن الناس الذين يأخذون المال منك ويعطونك مادة قيمة في المقابل.وبصورة عامة تكون عوائد سينيوراج زهيدة، وفي حقيقة الأمر فإن حكومة الولايات المتحدة تتكلف كمية أكبر من المال من اجل صنع الأوراق النقدية من قيمة تلك العملة نفسها، ولكن حتى مع الأوراق النقدية العالية القيمة فإن العوائد تتقلص بالمقارنة مع ضريبة الدخل على سبيل المثال. ومن الصعب الحصول على تقديرات محددة، ولكن تحليلاً صدر في سنة 1992 من قبل مجلس الاحتياط الفدرالي وضع قيمة السينيوراج في مقابل سندات الخزانة عند 1.6 في المئة من الانفاق الفعلي الفدرالي للميزانية. وهذا ليس بالشيء الزهيد، ولكنه لن يمكن الموظفين الحكوميين من تحقيق تقاعد أيضاً، ثم إن الولايات المتحدة تتمتع بكمية غير عادية من عوائد السينيوراج، لأن الدولار مطلوب بقوة من جانب مواطني دول غير مستقرة ومن أشخاص يريدون عقد صفقات غير قانونية نقداً. وفي وسع الحكومات أن تحاول رفع كمية عوائد السينيوراج عن طريق تضخيم العملة بصورة خفية، وبشكل أساسي تقوم الحكومات باستخدام معلومات فيما بينها وكذلك مع الأشخاص الذين تريد التداول النقدي معهم، وتعرف الحكومة كمية الأموال الموجودة ولكن المواطنين لا يعلمون ذلك. ومن هذا المنطلق قد يقبلون بوحدات أقل من العملة مما لو أنهم عرفوا أن الحكومة سوف تعمد الى طباعة كميات اضافية من العملة وتدفع بذلك الى ارتفاع الأسعار من جديد.ولكن هذه طريقة مروعة للحصول على الأموال، وهي السبب الذي يجعل الحكومات تحجم عادة عن اللجوء الى هذه الخدعة البارعة من أجل رفع الانفاق الحكومي من دون زيادة الضرائب. ولكن المشكلة هي توقعات التضخم تنتشر بسرعة كبيرة لتعويض ذلك وعندئذ تصبح الحكومة في حاجة الى طباعة المزيد من الأوراق النقدية لتبديد شكوك شركائها التجاريين.التضخم كأداة سياسةجوهر المسألة هنا بالنسبة الى فهم التضخم على شكل أداة سياسة هو أن التضخم المستقر لا يقدم أي خدمة لك، وما أنت في حاجة اليه هو تضخم متسارع، وفي الواقع لا بأس بحدوث قدر طفيف من التضخم، لأن ذلك يسمح للاقتصاد بتفادي الهزات التي يمكن ان تفضي إلى البطالة.وفي العصور المظلمة للاقتصاد تكونت لدى بعض الناس فكرة تقول ان درجة طفيفة من التضخم تعتبر جيدة وأن درجة أكبر قد تكون أفضل حتى أطلق طباعة الأموال واستمتع بنمو اقتصادي أعلى وبصورة دائمة، لكن هذه الطريقة ليست ناجحة – ويبدأ الناس بتوقع عودة التضخم والاقتصاد الى المستوى الطبيعي من الانتاج، عدا أن وفورات كل شخص أصبحت الآن أقل قيمة، ومن أجل تحقيق المزيد من النمو سوف يتعين عليك رفع وتيرة التضخيم بأسرع مما فعلت من قبل.عندما يتسارع التضخمولكن لسوء الحظ عندما يبدأ التضخم في التسارع سيصعب ايقافه لأن الناس تشرع أيضاً في تسعير التسارع في توقعاتهم. وينطوي التضخم العالي على كل أنواع التأثيرات السيئة وهو يلحق الضرر برأس المال ويجعل الناس يعزفون عن التخطيط للمستقبل لأنهم لا يعرفون كم ستكون قيمة أموالهم. ولكن المفارقة البارزة هي أن الحكومة وبعد نقطة معينة تبدأ بشكل فعلي في خسارة المال. وربما تكون قد سمعت عن لافر كيرف التي استخدمت لدعم تقديرات متفائلة غير واقعية في تأثيرات تحقيق العوائد خلال خفض الضرائب في عهد رونالد ريغان.ولكن من الجيد وصف ما حدث لعوائد الحكومة خلال فترة التضخم العالي؛ ففي البدء ارتفعت تلك العوائد ثم انخفضت واستمرت في الهبوط وأعقب ذلك توقف الحكومة عن شراء السلع والخدمات لأن الناس لم يعودوا في حاجة الى أي استخدام للمال باستثناء الأغراض التافهة مثل محارم الورق.وهذه ليست أسراراً تنطوي على ألغاز وهي معروفة فقط من قبل قلة مختارة في المجتمع الاقتصادي، وفي وسعي التأكيد على وجود محللين مرموقين في الحكومة الفنزويلية يعرفون على وجه الدقة الى أين سوف تنتهي الأمور في البلاد، والسؤال هو: لماذا إذاً يتركون الوضع يمضي الى نقطة تقتضي اصدار أوراق نقدية أكبر، بحيث لا يضطر الناس الى حمل أكياس من العملة في كل مرة يحتاجون فيها الى شراء الحليب؟يكمن جزء من الجواب في أن التضخم في البداية يوفر للحكومة المزيد من المال وعند النقطة التي تبدأ الحكومة فيها بخسارة المال تكون أيضاً النقطة التي يصعب فيها التوقف ويكون لدى الحكومة الخيار بين التوقف في الحال والقضاء على فرص البقاء أو انتظار السقوط في الهاوية.ويعمد المحتالون عادة الى اتباع هذه الطريقة، إذ يقومون بقدر قليل من الغش من أجل تغطية النقص المؤقت، ولكن المهم هو أن المشكلة لا تختفي، وسوف يضطرون الى قدر أكبر من الغش في الربع التالي بغية تغطية الفجوة التي لديهم الآن وتلك التي قاموا بتغطيتها في الربع الخير، ويصبحون عرضة للانكشاف عندما تغدو الفجوة كبيرة ولا يمكن الغش فيها. وهذا ما حدث بالنسبة الى بيرني مادوف عندما انهار السوق.وكانت هذه لعبة النهاية بالنسبة الى خط تشافيز وطوال نحو عقد من الزمن كان بعض قطاعات اليسار يأمل أن يمثل هيغو تشافيز البديل لاجماع الليبرالية الجديدة حول السياسة الاقتصادية، وفي كل مرة قلت فيها إن تشافيز كان يدير الاقتصاد بصورة سيئة ويقوم بتحويل أموال الاستثمار التي كانت لازمة من أجل وضع انتاج النفط للأغراض الاجتماعية، كنت اعلم أنني سوف أتلقى رسائل غاضبة بالبريد الالكتروني، وتعليقات تتهمني بمحاولة تخريب انجازاته، وأعترف أن سياسته أسهمت من دون شك في تحسين مستويات المعيشة لدى بعض الفقراء.وكانت المشكلة أنه كان يستخدم أموال الذرة المحلية كما أن النفط الخام الفنزويلي مكلف بشكل نسبي بالنسبة الى عملية الاستخراج والتكرير ويتطلب كمية كبيرة من الاستثمار من أجل الحفاظ على مستويات الانتاج. ومادامت أسعار النفط عالية لم تكن هذه السياسة مكلفة جداً لأن الزيادة تغطي خسائر الانتاج، ولكن ذلك عانى مشكلة التسارع ذاتها التي سبق أن تحدثنا عنها هنا؛ فكلما هبط الانتاج احتاجت البلاد الى رفع الأسعار من أجل تغطيته.وبين 1996 و2001 كانت فنزويلا تنتج أكثر من ثلاثة ملايين برميل من النفط يومياً، وهي تنتج اليوم حوالي 2.7 مليون برميل. وبشكل واقعي فإن سعر برميل النفط لا يكاد يتجاوز مستوى أغسطس 2000، ولكن فنزويلا كانت تنتج كمية تقل عن 700000 برميل في اليوم. وأصبحت السياسة التي بدت واعدة في مرحلة الصعود – بمزيد من الدخل ومزيد من الانفاق الاجتماعي - كارثية في المسار الهابط، حيث تعرض السكان الى قدر أدنى من الانتاج والسعر.حصيلة متوقعةكل هذا كان متوقعاً، وفي حقيقة الأمر فقد توقعه العديد من الناس – بمن فيهم انا، ولكن الحكومة الفنزويلية لم تستمع الى تلك التنبؤات او أنها لم تصدقها، ويسبب هبوط أسعار النفط في الوقت الراهن انهياراً في العوائد الحكومية في الوقت الذي تحتاج الحكومة فيه الى المال من اجل مساعدة الأشخاص الذين يعانون من بؤس شديد نتيجة تقلص دخل النفط في اقتصادهم، وفي البدء كانت طباعة الأوراق النقدية تبدو واحدة من أفضل الخيارات السيئة، وعندما تبين أن الدولة غير قادرة على الخروج من المأزق المؤقت بل تعمل على تفاقم الوضع السيئ، فقد ارغمت على اتخاذ مسار يصعب جداً الرجوع عنه.قد تتمكن فنزويلا من تفادي السقوط من على الحافة، مع أن ذلك يتطلب الكثير من المصاعب أو أن تمضي في طريق تضخم تصاعدي، يفضي إلى مستويات عالية من الألم. وأنا لا أغبط الملايين من المواطنين الفنزويليين الذين يتعين عليهم العيش مع القرارات التي ستتخذها حكومتهم.
مقالات - Ecooped
تصاعد موجة طباعة الأوراق النقدية في فنزويلا
05-09-2015