مشروع الطاقة النظيفة الرائد
من المهم في مؤتمر الأمم المتحدة للتغير المناخي في باريس في ديسمبر القادم التوصل إلى إزالة الكربون للإبقاء على الاحتباس الحراري أقل من المنطقة الخطيرة جداً التي تصل إلى درجتين مئويتين، والوعد خلال العامين القادمين بتقديم «مسارات» وطنية فيما يتعلق بإزالة الكربون العميق بحلول سنة 2050، والعمل معا على تمويل المشروع العالمي الجديد المتعلق بالطاقة المتجددة.
أثار الرئيس جون كينيدي في مايو 1961 ضجه في أميركا والعالم بهذه الكلمات: "أنا مؤمن أن هذه الأمة يجب أن تلتزم قبل نهاية هذا العقد بتحقيق هدف إنزال رجل على القمر وإعادته سالما إلى الأرض"، وبعد تلك الكلمات بثماني سنوات فقط تمكنت "ناسا" من تحقيق ذلك، وبفوائد جمه للعلم والتكنولوجيا والاقتصاد العالمي، واليوم حددت مجموعة من كبار العلماء والمبتكرين والاقتصاديين المشروع الرائد لهذه الحقبة، وهو استبدال الوقود الأحفوري بتقنيات الطاقة النظيفة خلال هذا الجيل.منذ أن قامت مجموعة من القادة المتخصصين بالسياسات من المملكة المتحدة بإطلاق برنامج "أبولو" العالمي لمحاربة التغير المناخي في وقت مبكر من هذا العام تحمست أنا والكثير غيري لتبني هذه المشروع، فهذا البرنامج الذي سمي تيمنا ببعثة ناسا للقمر مبني على أساس فكرة "التغيير التقني الموجه"، أي بعبارة أخرى من خلال جهود واعيه تدعمها أموال عامة فإنه يمكننا توجيه تطوير التقنيات المتقدمة اللازمة من أجل تحقيق سلامة الإنسانية ورفاهيتها، إذ تأتي الطاقة النظيفة على رأس القائمة مما سيمكننا من تجنب الاحتباس الحراري الذي يتسبب به إحراق كميات هائلة من الفحم والنفط والغاز حول العالم.
وإن مشروع مسارات إزالة الكربون العميق أظهر أن مستقبلاً بكربون منخفض في متناول أيدينا مع تحقيق فوائد ضخمة بتكلفة متواضعة للغاية، فإن تخفيض الانبعاثات بنسبة 80% بحلول سنة 2050 في الولايات المتحدة الأميركية على سبيل المثال ليس ممكنا فحسب، بل سيتطلب نفقات إضافية تصل إلى نحو 1% فقط من الناتج المحلي الإجمالي كل سنة، والمنافع– بما في ذلك مناخ أكثر أمنا وبنية تحتية أكثر ذكاءً ومركبات أفضل وهواء أنظف- ستكون كبيرة للغاية.والمسارات لمستقبل بكربون منخفض تركز على ثلاثة أشياء رئيسة، وهي تحسين فعالية الطاقة وإنتاج الكهرباء من مصادر الطاقة ذات الكربون المنخفض (مثل الطاقة الشمسية وطاقة الرياح) والتحول من البترول إلى الطاقة المنخفضة الكربون من أجل إمداد المركبات بالطاقة (مثل المركبات الكهربائية وتلك التي تعمل بخلايا الوقود) وتدفئة المباني، وهذه تعتبر أهدافاً واضحة ويمكن تحقيقها، ويتوجب على القطاع العام أن يلعب دورا رئيساً في الدفع قدما بتلك الأهداف.ويتوجب على السياسيين أن ينهوا الدعم للفحم والنفط والغاز، والبدء بفرض الضرائب على الانبعاثات الناتجة عن استخدامها، بالإضافة إلى ذلك يتوجب عليهم تلبية الحاجة إلى خطوط طاقة جديدة لنقل الطاقة المنخفضة الكربون التي تشمل الطاقة الشمسية وطاقة الرياح والطاقة الحرارية الأرضية والطاقة الكهرومائية من الأماكن النائية (والمنصات البحرية) إلى مراكز السكان.لكن تلبية تلك الاحتياجات تفترض إحراز تقدم في التقنيات التي ستمكن أنظمة الطاقة المنخفضة الكربون من التنافس مع البدائل، وهنا يأتي دور برنامج "أبولو" وهدفه الشجاع بتخفيض تكلفة الطاقة المتجددة، لتصبح أقل من الفحم والنفط والغاز.بالطبع تعتبر الطاقة المتجددة في بعض الأحيان أرخص من الوقود الأحفوري، وذلك عندما تكون الشمس ساطعة والريح تهب بقوة واستمرار، وإن التحدي الرئيسي الذي يواجه الطاقة المتجددة هو تخزينها، وذلك على النحو الآتي:أولاً: نحن بحاجة لتخزين الطاقة المتجددة من أجل استخدامها بالمركبات بطريقة فعالة ومنخفضة التكاليف، فبينما يوجد لدينا بالفعل مركبات كهربائية فائقة الجودة فإنها بحاجة لتحسينات في المدى والتكلفة لمنافسة المركبات التقليدية، وإن الأولوية التقنية الأعلى هي تطوير بطاريات للنقل أرخص وأخف وزناً وتدوم لفترة أطول، ويمكن شحنها بشكل أسرع. ثانياً: نحن بحاجة لتخزين الطاقة المتقطعة في الأوقات التي لا تهب فيها الرياح أو لا تسطع فيها الشمس أو لا تتدفق فيها الأنهار بالقوة اللازمة لتشغيل توربينات توليد الطاقة الكهرومائية، وإن العديد من تقنيات تخزين الطاقة مستخدمة بالفعل أو في مرحلة التطوير، ومن الأمثلة على ذلك ضخ الطاقة الكهرومائية، حيث يتم استخدام الطاقة الشمسية وطاقة الرياح الزائدة في ضح المياه إلى الأعلى باتجاه الأحواض التي يمكن أن تنتج لاحقا طاقة كهرومائية. ومن الأمثلة الأخرى تحويل الطاقة المتجددة إلى هيدروجين (عن طريق تقسيم جزئيات الماء) أو عمل وقود سائل اصطناعي باستخدام ثاني أكسيد الكربون الموجود في الهواء، والأمثلة الأخرى تشمل الهواء المضغوط وتخزين البطاريات على نطاق واسع.يمكن تحسين التقنيات المنخفضة الكربون بشكل ملحوظ في العديد من المجالات الأخرى كذلك، فشبكات الكهرباء التي تعمل بالطاقة المتجددة تحتاج إلى أنظمة أكثر تعقيداً لإحداث توازن بين العرض والطلب فيما يتعلق بالطاقة، والتحسينات في استخلاص الكربون وتخزينه ستسهل من استخدام بعض أنواع الوقود الأحفوري بشكل آمن، كما يمكن عمل تصميمات محطات الطاقة النووية بشكل أكثر أمناً باستخدام أنظمة أمان أوتوماتيكية ودورات وقود تخلف كميات أقل من المخلفات الإشعاعية والمواد الانشطارية التي يمكن تحويلها إلى أسلحة.نظراً لتريليونات الدولارات من الخسائر الممكنة بسبب التغير المناخي الناتج عن النشاطات البشرية وتريليونات الدولارات التي يتم استثمارها سنويا في أنظمة الطاقة العالمية، ستكون حكومات العالم حكيمة لو قررت استثمار عشرات المليارات من الدولارت كل عام في الأبحاث والتطوير اللازمة من أجل تحقيق مستقبل بطاقة منخفضة الكربون، ولو أخذنا ذلك بعين الاعتبار لكان يتوجب أن يكون هناك أكثر من سياسي يتبع خطى جون كينيدي أي أن يتصدر لإعلان المشروع الرائد الحيوي لهذا الجيل وتقديم الأموال العامة اللازمة لتحقيق ذلك.لم يتقدم أي من السياسيين حتى الآن، فعلى سبيل المثال في الولايات المتحدة الأميركية تخصص الحكومة نحو 31 مليار دولار أميركي سنويا للأبحاث الطبية الحيوية (مع عوائد كبيرة بالنسبة للصحة)، ونحو 65 مليار دولار أميركي سنويا للأبحاث والتطوير في المجال العسكري، و7 مليارات دولار أميركي فقط سنويا للطاقة غير الدفاعية بما في ذلك أقل من 2 مليار دولار أميركي سنويا على الأبحاث والتطوير في مجال الطاقة المتجددة، وهذه تعتبر هفوة صادمة لسببين: أولا- الولايات المتحدة الأميركية والعالم يخسران الوقت في مجال إزالة الكربون. ثانياً- تضيع أميركا فرصة تطوير الصناعات العالية التقنية المستقبلية فيها.إن برنامج "أبولو" ومشروع مسارات إزالة الكربون العميق يوجهان حكومات العالم إلى الاتفاقية التي يتوجب التوصل إليها في مؤتمر الأمم المتحدة للتغير المناخي في باريس في ديسمبر القادم: أولاً، يجب على الحكومات التعهد بإزالة الكربون من اقتصاداتها للإبقاء على الاحتباس الحراري أقل من المنطقة الخطرة جداً التي تصل إلى درجتين مئويتين. ثانياً، يتوجب على الحكومات أن تعد خلال العامين القادمين بتقديم "مسارات" وطنية فيما يتعلق بإزالة الكربون العميق بحلول سنة 2050، ثالثاً، يتوجب عليها العمل معا لتمويل المشروع الرائد العالمي الجديد المتعلق بالطاقة المتجددة، ويجب ألا يقل التمويل المشترك عن مبلغ 15 مليار دولار أميركي سنويا على أن يرتفع بشكل حاد لاحقا لذلك، في حين يتم إحراز اختراقات في التقنية ذات العائد المرتفع.لقد أظهر جون كينيدي أن التقدم العظيم يبدأ بهدف عظيم، أي الإعلان عن هدف شجاع وجريء وقابل للتطبيق في الوقت نفسه، وإن الهدف اليوم الذي يدعمه برنامج "أبولو" هو إزالة الكربون العميق، ولقد حان الوقت لقادة العالم الالتزام بهذا المشروع الرائد الخاص بالطاقة النظيفة من إجل إنقاذ العالم.* جيفري دي. ساكس | Jeffrey Sachs ، أستاذ في التنمية المستدامة وفي السياسة الصحية وإدارتها، ومدير معهد الأرض في جامعة كولومبيا، ويعمل أيضاً مستشاراً خاصاً لأمين عام الأمم المتحدة فيما يتعلق بأهداف تنمية الألفية.«بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة»