كان التيار الثالث الذي صنع الثورة الإيرانية مجموعة "المتدينين الليبراليين" بقيادة "مهدي بازرجان" رئيس وزراء الحكومة المؤقتة عند وصول الخميني، ويقول عنه الباحث الإيراني إبرهيميان: "كان بازرجان (1907- 1995) نائب وزير مع مصدق، كما كان أكثر تدينا من زملائه في الجبهة الوطنية. أسس في عام 1961 حركة الحرية، ملتزما بالمثل العليا للوطنية الإيرانية، والليبرالية الغربية، والإسلام الشيعي". ويضيف الباحث "عدّ العلمانيون بازرجان متدينا للغاية، وعده المتدينون علمانيا للغاية، قدم استقالته من منصب رئيس الوزراء احتجاجا على استيلاء الطلاب على سفارة الولايات المتحدة في عام 1979". (ص277).
وتقول د. السبكي إن فترة حكم بازرجان كانت مليئة بالمنغصّات، إذ قضاها الرجل في شقاق مستمر مع رجال الدين، وعلى رأسهم الخميني نفسه. وقد صرح "بازرجان" في حديث تلفزيوني بعد الثورة بشهر في مارس 1979 بأن "إيران سائرة نحو الخراب، وأن الخميني يتخذ قراراته دون علم أحد"، وأنه- أي "بازرجان"- احتج على تلك التصرفات التي تسيء إلى سمعة الثورة في العالم، خصوصا أن المؤسسات التي ساندت الثورة الإيرانية بدأت تنتقد المحاكمات السرية التي كانت تعقدها الثورة وطريقة معاملة السجناء دون جدوى. وقد ندد بازرجان بتجاوزات اللجان الثورية التي كانت منتشرة في طول البلاد وعرضها".استند "بازرجان" إلى جيل من المهنيين والفنيين وموظفي الحكومة المسنين، من ذوي الخبرة والحنكة السياسية المرتابين في توجهات رجال الدين المتشددين، كما أنهم فقدوا الثقة بقدرة رجال الدين على إدارة الدولة ومؤسساتها. وتضيف د. السبكي "أن الليبراليين هؤلاء قد نادوا بالجمهورية الإسلامية الديمقراطية البعيدة عن التعصب، والمتضمنة القومية الإيرانية بأعراقها المختلفة ودياناتها المتباينة، وكانوا مهتمين بتحديث الدولة ولم يتبنوا فكرة تصدير الثورة الإيرانية إلى خارج حدودها".وكانت هذه المجموعة تتوجس من تنامي قوة العراق العسكرية، وتطالب بإقامة علاقات ودية مع الغرب الأوروبي ككل، وبتقليل الاعتماد على الولايات المتحدة وحدها في تصدير السلاح لإيران، وظلوا على خلاف واضح مع الخميني وأتباعه، وكذا "اللجان الثورية" التي باتت تهدد استمرار مؤسسات الدولة في أداء واجبها.وتعتبر الباحثة "الإصلاحيين" التيار الرابع في الثورة، وتقول: "تكونت هذه الجماعة من المجاهدين المشتركين في حرب العصابات، وكذا بعض أتباع الدكتور علي شريعتي الذي نشأ في أسرة من رجال الدين، وتلقى تعليمه في فرنسا التي شهدت معاهدها بتميزه في علم الاجتماع، وكان على اتصال بجبهة التحرير الجزائرية قبل الاستقلال، والتقى مفكري فرنسا البارزين أمثال فرانز فانون وسارتر، وترجم شريعتي لفانون كتابه "المعذبون في الأرض" وبعد عودة شريعتي لإيران قام بالتدريس في أحد معاهدها الإسلامية المعروفة بحسينية الإرشاد، وهو المعـهـد الـذي هـاجـمفيه مرارا تعصب رجال الدين الشيعة ضد السنة، واعتقل عدة مرات لتبنيه أفكارا تقدميه تناهض التعصب بكل أشكاله. ومات قبل الثورة 1978. ولقد التفّ حول شريعتي العديد من رجال الفكر والشباب الدارسين وطلاب المعاهد العليا، وكانت جماعة شريعتي ترفض الإمبريالية والرأسمالية التقليدية وطغيان رجال الدين، كما كانت جماعة ثورية بالمعنى الكامل ترمي للقضاء على الملكية البهلوية والقيام بثورة اجتماعية شاملة ضد البناء الطبقي للمجتمع، وطالبوا بإعادة توزيع الثروة الزراعية وتحديث وسائل الإنتاج، ونقل السلطة للعمال والفلاحين حتى يتحول المجتمع الإيراني إلى مجتمع بلا طبقات وتعرضت الجماعة للاضطهاد من قبل الجماعات الدينية الأخرى ورجال الخميني". (ص 230).يقول الباحث إبراهيميان عن د. شريعتي: "يعد المنظّر الحقيقي للثورة الإسلامية، هدفت محاضراته الخصبة الى تحويل التشيع من ديانة محافظة تتحاشى السياسة إلى أيديولوجية سياسية ثورية تتنافس مع اللينينية والماوية". (ص 275).وتقف د. السبكي عند "الوطنيين التقليديين"، خامس القوى المساهمة في ثورة إيران لعام 1979، وهؤلاء هم "الجبهة الوطنية" التي تعد من أقدم الأحزاب السياسية في إيران، حيث برز دورها إبان ثورة مصدق في الخمسينيات، وكانت تنادي بالتخلص من الأسرة المالكة البهلوية، وبمبادئ حركة مصدق، وبتطوير الدستور، وتطالب بنظام جمهوري تعددي. وقد جمعت صفوف هذا التيار الكثير من جيل المسنين الذين عاشوا عهد مصدق، وكانوا ينادون باستمرار العلاقات التجارية والعسكرية مع الولايات المتحدة مع التوسع في الروابط مع أوروبا وبخاصة فرنسا، "ولم يرددوا الشعارات الدينية مطلقا، لاعتقادهم أنها ستزيد من مكاسب رجال الدين على حساب بقية المجتمع، وكانوا يرون أن أي مسلم مثقف بمقدوره تفسير الفقه الإسلامي". (ص 230).ماذا عن اليسار الإيراني؟ ولماذا انتصر الإسلاميون عليه؟ هذا ما سنراه في المقال القادم.
مقالات
أفكار وأضواء: ضحايا ولاية الفقيه (2)
18-09-2015