سلامٌ أيها الخادم!

نشر في 21-10-2015
آخر تحديث 21-10-2015 | 00:01
 طالب الرفاعي تقرأ أحياناً كتاباً فيستوقفك كثيراً كيف أن الكاتب خطّ فكرةً جالت ببالك لسنوات وربما لعقود، وسطّر ما كنت تنوي كتابته.

"الكاتبُ والآخر" لمؤلفه "كارلوس ليسكانو-Carlos Liscano" (1949- ) أحد أشهر كتّاب أوروغواي وأميركا اللاتينية، ترجمة نهى أبو عرقوب ومراجعة د. أحمد خريس، الصادر عن هيئة أبوظبي للسياحة والثقافة "مشروع كلمة"، هو أحد الكتب التي تجمع بين السيرة الذاتية، ورواية السيرة الذاتية، وآلية الكتابة الإبداعية. وبعيداً عن التجنيس الأدبي لنوع الكتاب، فمؤكد أن هذا الكتاب هو متعة مشوّقة ومحفزة لأي قارئ، وهو إلى جانب ذلك كتاب مهم للكاتب المحترف، الذي نذر نفسه للكتابة حتى صارت زاداً للحظته، وغدت لحظته زاداً لها.

ليسكانو الذي سُجن ثلاث عشرة سنة، وهناك في ويلات السجن والتعذيب، حضرت به الكتابة لتكون منقذاً وطوق نجاة يستطيع التمسك به هرباً من الجنون وربما الموت. حضرت الكتابة بأبجديتها البسيطة جداً، وحضرت بعظمتها المخيفة، لحظة يقف الكاتب تائهاً أمام بياض الورقة.

هناك في السجن، بدأ ليسكانو يرتب أجزاء لوحة قلبه وفكره. هناك اتخذ قرار حياته الأهم بأن يكون كاتباً، وبأن تكون الكتابة رفيقة دربه. في تلك الليالي المظلمة المليئة بالمخاوف لم يكن ليسكانو يدرك أي خطوٍ قد قاد نفسه إليه، ولم يكن ليعي أنه إنما قايض نفسه لنفس أخرى، وأن هذه المقايضة غير قابلة للاسترجاع. وبعد عقود من تلك الليلة كتب: "إن الوصول إلى الأدب لم يكن هيّناً عليَّ، والعيش على أرضه أمر أعقد بكثير من الاقتراب منه". ص28، لكن الأهم هو وعي الإنسان الكاتب بأنه لحظة يتخذ قراره بأن يكون كاتباً إنما يصنع آخر، الإنسان يصنع الكاتب بداخله. وبهذا يرتضي لنفسه أن يعيش طوال حياته خادماً يسعى ما أمكنه لخدمة سيده الكاتب، ويسعى ما استطاع أن يلبي كل ما يأمره به الكاتب ويرضى عنه، وأخيراً يقبل على نفسه وبرضا وسرور أن يعيش خادماً إلى لحظة مماته، خادماً لشخص شره للمعرفة ومتطلب للتجديد. آخر يسكن خفق قلبه، ويحيا معه كظله. "في لحظة ما، بدأت أبني شخصيّة، تلك التي تكتب، وشيئاً فشيئاً بسطت هذه الشخصية نفوذها على كل شيء وسحقت الآخر. سحقته حتى لم يعد له مكان. كل ما يفعله أو يقوله، أو ما لا يفعله أو لا يقوله، بات متعلّقاً بالشخصية، وليس الآخر، ذلك الذي سُحق في صمت، دون أن يكون في وسعه أن يفعل، أو يقول ما عنده". ص33.

نعم، حين يقرر أي منا أن يكون كاتباً، وبكل ما تعني هذه الكلمة من وزنٍ مهلك يقصم الظهر. فإنه يرضى لنفسه أن يعيش منشطراً إلى ثلاثة أشخاص: شخص مأخوذ بمراقبة نهر الحياة الذي يسير أمامه أينما وحيثما كان. وشخص ثان يجهد كي يكتب عن جريان حياة النهر. وشخص ثالث، نفس تشقى في الصمت والحرمان، كي تتيح للأول تملي النهر، وتقوم على خدمة الشخص الثاني في عذابه لكتابة ما يدور أمامه. والشخص الثالث يقوم بما يقوم به راضياً، حتى إنه يفرح إذا ما التقط الأول فكرة، ويهتز قلبه إذا ما أقدم الثاني على الكتابة، وتنتابه نشوة سرية حين يسمع منْ يأتي لتقييم عمل الآخر، حتى دون أن يقف ولو مرة واحدة أمام معاناته وشقائه.

كل كاتب يعيش منشطراً بين نَفسَين. نفس أولى منشغلة عن الحياة بتسجيل عوالم الحياة، ونفس ثانية تجهد كي تلبي النفس الأولى. وفي المحصلة، فإن قانون الحياة يقول بوضوح لا لبس فيه: لك يا إنسان أن تختار بين عيش الحياة أو الكتابة عنها، ومتى ما اخترت أن تكتب عن الحياة فأنت مُستبعدٌ عن عيش لذتها الراعفة.

إن قراءة متعة لكتاب كارلوس ليسكانو، وبالنسبة للكاتب تحديداً تأخذه إلى مقولة يعرفها وهي: "الكتابة هي أن تبقى موثوقاً إلى وتدٍ في قلب الصحراء وأن تعيش قلقاً لا حدود له". ص41.

back to top