عن إصلاح التعليم... مرة أخرى
لبناء دولة مدنية ديمقراطية عصرية لا بد من رؤية سياسية ومشروع واضح لخطط التنمية الإنسانية الحقيقية، وتعليم ذي رؤية وأهداف محددة وواضحة ومؤشرات قياس دقيقة، فالاجتهادات الفردية تبقى قاصرة وتأثيرها لحظي مهما كانت، فلا يعتمد عليها في بناء منظومة تعليمية عصرية متطورة، لذا ينحدر مستوى التعليم وتتخلف مخرجاته.
لا جدال حول أهمية التعليم باعتباره ركيزة أساسية من ركائز تطوير الدولة والمجتمع، ولا جدال أيضا حول حاجة التعليم إلى إصلاح مستمر وتطوير دائم، ولكن إصلاح منظومة التعليم وتغيير المناهج الدراسية ينبغي أن يكونا، كما ذكرنا من قبل، حزمة متكاملة تلبي متطلبات التنمية الإنسانية المستدامة، وتكون جزءاً لا يتجزأ من مشروع نهضوي يسبقه إصلاح سياسي وديمقراطي جذري وشامل يستهدف بناء دولة مدنية ديمقراطية عادلة.بعبارات أخرى فإنه لا جدوى من مجرد الوقوف مطولاً، كما يفعل بعض المتخصصين أو المهتمين بتطوير التعليم، عند تفاصيل العملية التعليمية، أو طلب مزيد من الدراسات المدفوعة الثمن، وعقد المؤتمرات والندوات المُكلفة مالياً حول ما يُسمى "استراتيجية التعليم" والتي لا يسمع عنها أحد، إذ تختفي "الاستراتيجية" بمجرد انتهاء أعمال المؤتمر. كما أنه لا فائدة أيضا من مجرد تكرار الحديث المُمل عن بعض أعراض سوء التعليم مثل تخلف بعض المناهج وضعف المخرجات، أو بعض مظاهر الفساد المؤسسي المستشري في المنظومة التعليمية مثل قضية الشهادات المضروبة أو المُزوّرة التي تثار فجأة من فترة لأخرى ثم تختفي فجأة، أو عدم تكافؤ الفرص والتجاوزات المالية والإدارية. كل ما سبق، مثله مثل الحديث المكرور عن أهمية الدور الذي لعبه التعليم في تقدم دولة ما في مشارق الأرض ومغاربها، سيبقى حديثا مرسلا لن يُصلِح التعليم أو يُطوّره ما لم يرتبط، كما سبق أن ذكرنا، ارتباطا وثيقا بعملية إصلاح سياسي جذري وشامل، فالإدارة السياسية المتخلفة أو الدولة التي تفتقد إلى مشروع سياسي أو رؤية تنموية واضحة، وينتشر الفساد في مفاصلها لن يكون باستطاعتها إصلاح التعليم أو تقديم رؤية عصرية لتعليم نوعي ومتطور.
الدول المتقدمة التي يضرب فيها المثل عادة في تطور التعليم مثل اليابان تمتلك رؤية واضحة ومشروعا سياسيا متكاملا يشارك فيه الجميع، ويستهدف بناء دولة ديمقراطية عصرية وصناعية متطورة، بحيث تأتي بعد ذلك خطط التنمية الشاملة وسياساتها وفي مقدمتها سياسة التعليم التي تُصاغ بحسب احتياجات خطط التنمية المستدامة. بمعنى آخر فإن سياسة التعليم تستهدف تنفيذ المشروع العام للدولة والخطط التنموية، فالتعليم ليس سابقا لهما أو منفصلا عنهما وكأنه معلق في الهواء.لذلك فعندما تغيب الرؤية السياسية والمشروع الواضح لبناء دولة مدنية ديمقراطية عصرية تغيب معهما خطط التنمية الإنسانية الحقيقية، ويصبح التعليم بلا رؤية ولا أهداف محددة وواضحة ولا مؤشرات قياس دقيقة. الاجتهادات الفردية تبقى قاصرة وتأثيرها لحظي مهما كانت، فلا يعتمد عليها في بناء منظومة تعليمية عصرية متطورة، لذا ينحدر مستوى التعليم وتتخلف مخرجاته بالرغم من حجم الأموال الهائلة المصروفة عليه.