كتب الأخ الصديق د. إبراهيم عرفان مقالاً قيماً بعنوان "فقر الأفكار في التماس الأعذار" بمناسبة الأحداث الإرهابية في باريس، ليؤكد عجز قطاع عربي كبير عن المراجعة وحساب النفس والمسارعة في التماس الأعذار للإرهابيين، وكأنهم يقولون للغربيين تستحقون ما جرى لكم بسبب ماضيكم الاستعماري، ليقول: ليس أسوأ من فقر الجيوب إلا فقر العقول، تلك العقول التي اعتادت تعاطي الخرافات وإبراء نفسها من التبعات ومطاردة دعاة العقول باللعنات والاتهامات. صدق كاتبنا في ما ذكر، وصحيح أن العقل أعدل الأشياء قسمة بين البشر، لأن المولى تعالى ميز الإنسان بالعقل وكرمه على سائر المخلوقات، فلا فرق بين عقل عربي وعقل غربي، إلا أن العقليات أو الذهنيات مختلفة تبعاً لاختلاف الثقافات الموروثة والسائدة، وتبعاً لاختلاف التطور الحضاري للشعوب، ومن هذا المنطلق، نستطيع التحدث عن "عقلية ارتيابية" لدى قطاع عريض من الرأي العربي، أقصد بالعقلية الارتيابية، تلك العقلية التي تتوجس من الآخر، وتغلب سوء الظن والشك فيه، باعتبار أننا "الأمة المستهدفة" أبداً، من قبل أعداء عالميين أقوياء، متربصين، لا يريدون الخير لنا ولا شغل لهم إلا الكيد للإسلام والعرب والمسلمين، ولا يسأل أصحاب هذه الهواجس أنفسهم، لماذا يتآمر العالم المتقدم علينا ونحن الأحوج إليه في كل صغيرة وكبيرة من أمور حياتنا؟! هل من قوتنا الرهيبة؟ أم من اقتصادنا المنافس له؟ وما الذي يخشاه ويشكل خطراً عندنا، حتى يتآمر ضدنا؟!

Ad

على أن العقلية الارتيابية لا تقتصر على أوهام التآمر العالمي الذي يستهدف أمتنا، كما يرددون، بل لها مظاهر وتجليات عديدة، أبرزها:

 1 - العقلية الارتيابية الاتهامية التي تسارع إلى التشكيك في المعتقد الديني للآخر وتكفيره أو اتهامه في وطنيته وتخوينه لمجرد الخلاف السياسي أو المذهبي أو الديني.

 2 - العقلية الارتيابية الإقصائية التي تدعي تملك الحقيقة المطلقة أو الصواب المطلق، فلا تؤمن بنسبية الحقائق السياسية والاقتصادية والمعرفية والمذهبية، معتبرة أن معتقدها هو الصواب المطلق ومعتقدات الآخرين هي الزيغ والبطلان والضلال.

 3 - العقلية الارتيابية الهروبية، التي لا تواجه مشاكل مجتمعاتها وتتحمل مسؤوليتها، وتستسهل تحميلها للآخر الغربي المتفوق، أو الآخر الداخلي المختلف، عبر أوهام التآمر، أو أخطار الغزو الفكري والعولمة والصليبية الحاقدة والحرب الدينية ضد الإسلام، فلا تعترف بأخطائها، ولا تراجع أوضاعها، بل تبرر للأعمال الإرهابية العدوانية، بأنها ردة فعل لمظالم الغرب.

 4 - العقلية الارتيابية الانتقائية الأسيرة للماضي المجيد، والتي تنتقي من تاريخها الطويل (14 قرناً) "لحظات مضيئة" وتغيب ألف عام من الصراعات الدموية على السلطة وقمع المعارضين، ومظالم عامة وانقسامات طائفية عنيفة وفتناً عظمى، وأخطاء كبرى بحق الشعوب الأخرى تبررها، وكأن تاريخ العرب والمسلمين ليس تاريخ بشر لهم وعليهم، يصيبون ويخطئون، مثل سائر الشعوب والأمم، مما ورث أبناءها استعلاء كاذباً وامتلاء فارغاً للذات، وأحلاماً رومانسية لماض مجيد ينبغي استعادته عبر الشحن والتحريض على كراهية الآخر المتفوق والثأر منه استرداداً لكرامة أمة جريحة، كما يزعمون؟

 5 - العقلية الارتيابية الخرافية التي تصور الأمور تصويراً لا عقلانياً وتربط الظواهر بغير أسبابها وعللها، وتسارع في تحريم مباحات، بناء على أوهام وظنون، من أمثلة ذلك، ما نقلته مواقع إلكترونية عن مغردين قطريين طالبوا الجهات المختصة في قطر بعدم السماح لفرقة أجنبية بتقديم عروض ألعاب خفة اليد والخدع البصرية بحجة أنها من قبيل السحر المحرم في الدين! علماً أن هذه الفرقة تقدم عروضها في دول عديدة من غير اعتراض، ولم يعتقد أحد أن هذه العروض المسلية للجماهير، من أعمال السحر! فقد ذكرت بوابة الشرق الإلكترونية أن مغردين أكدوا للمحرر أن الجهات المختصة ألغت عقد أكبر عرض للسحر العالمي بالدوحة، مع شركة أجنبية كان مزمعاً تقديمه بمركز قطر الوطني للمؤتمرات، وذلك بناء على اعتراض عدد من المواطنين عبر هاشتاق "طهر الله قطر من السحر" استنكروا فيه احتضان الدوحة لمثل هذه العروض المخالفة لقيم الإسلام والأخلاق وعادات المجتمع القطري، مستندين إلى فتوى الشيخ الفوزان بعدم جواز مشاهدة السحر حقيقياً أو تمثيلياً.  ومع أنني أستبعد صحة الخبر، كما أستبعد أن يكون الإلغاء، إذا صح، تم بناء على هذا الاعتبار الوهمي، فقد تكون هناك اعتبارات أخرى، إضافة إلى أن هؤلاء قلة لا يمثلون الأكثرية من الرأي العام في قطر، إلا أنني لا أستغرب وجود عقليات في المجتمع القطري وفي غيره من المجتمعات تعتقد أن أعمال خفة اليد، سحر محرم شرعاً!

ختاماً: هذه العقليات الارتيابية قد لا تشكل ظاهرة لدى السواد الأعظم، لكن ينبغي مراجعتها وتشخيصها، لأنها معوق ثقافي في وجه التنمية والتقدم، عبر تفعيل آليات النقد والمراجعة ورفع سقف الحريات العامة، لنثق بأنفسنا وثوابتنا، ولنتخلص من أوهام التآمر وهواجس الغزو الثقافي ومخاوف العولمة، ولنتحرر من أغلال الماضي، فنحن أبناء هذا العصر، وجزء من هذه الحضارة، لنتفاعل مع مستجداتها تفاعل الواثق لا الخائف المستريب، لأن الخائف المتوجس لا يبني ولا يتقدم ولن يستطيع النهوض أبدا، لنتصالح مع العالم كما فعلت كل الأمم المزدهرة، وعلينا أن ندرك أن بلاءنا يأتي منا لا من الآخر الخارجي، من الغزو الداخلي الهمجي المدمر لمجتمعاتنا وأسسها المدنية والحضارية، من فيروسات التطرف والتعصب والطائفية والقبلية وسوء الظن بالآخر واتهامه وإقصائه وتخوينه وتكفيره، مصداقاً لقوله تعالى، "وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ" صدق المولى تعالى.

*كاتب قطري