حضارة تفقد إنسانيتها
القرن الـ21 ربما سيحمل آخر ما يتبقى من الصفات الإنسانية التي بدأت تتراجع وتضمحل في مقابل التقدم التكنولوجي والصناعي وعالم التواصل الافتراضي عبر شبكات الإنترنت، ووسائط النقل المختلفة، التي باتت تعتمد على التواصل الآلي، الذي تديره الآلات بكل كفاءة وانضباط بدون حاجة إلى العقل الإنساني.هذه الآلات الشرهة التي يأكل بعضها بعضاً في تطورها اللاهث السريع، فهي لا تلغي كفاءة الإنسان وحده لتحل مكانه، بل هي تحل مكان بعضها البعض في محو وإحلال وتجديد دائم مسعور لالتهام كل ما يمكنها بلعه ومحوه من سوق منافس لا يبقي ولا يذر، تنافس ضاري يدمر من لا يستطيع أن يكبر وينمو ويتطور باستمرار بالخارق والمدهش حتى يسيطر على سوق استهلاكي لا يذكر ولا يرحم من يتوقف ولو للحظات لالتقاط أنفاسه، حتى المستهلكون باتوا تحت رحمة هذا التنافس الشيطاني الذي لا تهدأ تروس مسناته.
فما نراه اليوم ونركض وراءه ونتلهف لسرعة اقتنائه لن يعمر وجوده أكثر من شهور أو عام بالكثير، ويصبح بلا قيمة وسلعة انتهى زمن صلاحيتها، واسمها البراق الذي شفط النقود من جيوب المستهلكين لها بات لا قيمة له، ويجب على المستهلك أن يركض ويلهث لاقتناء الجيل اللاحق الذي ألغى مميزات ما سبقه وجاء بما يتفوق به عليه. نحن الآن في زمن السيادة والتفوق للصناعات الإلكترونية الذكية بل في غاية الذكاء، لأنها استطاعت أن تحل محل الوجود الإنساني في أعمال كثيرة، بل الأخطر من ذلك يكمن في تمكنها من تحييد الإنسان وتقزيمه والتقليل من قدراته بسبب زيادة اعتماده عليها، فهي تعمل على استلاب قدراته العقلية الفذة بمزيد من خدماتها التي تقدمها له، لتحل مكان عقله الذي أعطته اجازة وعطلت كفاءته.الزمن القادم ربما لن يكون فيه مكان للقيمة الإنسانية التي ستضمحل وتضمر مقابل تضخم آلي لأجهزة ذات ذكاء مخيف تستطيع أن تعد وترسم وتخطط وتنفذ بقدرة تتفوق بمراحل كبيرة، لن يستطيع ملاحقتها العقل البشري الذي بدأت تتراجع كفاءته بسبب اعتماده الكلي عليها، الأمر الذي بدأ يعطي تباشيره منذ الآن في هذه الأعداد الطلابية الكبيرة حول العالم التي صارت تفقد قدراتها على الكتابة المستقلة عن الكمبيوتر والأجهزة الذكية، نحن أمام أجيال لا تستطيع الكتابة بدون استخدام هذه الأجهزة، ولا يتوقف الأمر على الكتابة فقط، بل إلى جانب ذلك معظم الأنشطة العقلية الإبداعية الذاتية توقفت، وباتت تعتمد تماماً على الآلة التي بيدها كل مصيره، فهي التي ترسم وتعد وتخطط وتنفذ، وما الإنسان إلا عبد غبي أهمل معطيات عقله وأعطبها باعتماده عليها، وبات تابعاً لها لا يستطيع العيش من دونها، فهي تقوم بدور المهندس والمخترع والعالم والفنان والطبيب والمصمم ومقاول البناء، وكل العمليات المطلوبة من صغيرة إلى اختراع صاروخ أو قنبلة هيدروجينية، وما على الباحث إلا النقل والغش منها ليصبح مهندسا أو عالما أو فنانا أو مخترعا، بكل بساطة وبكل بلاهة عطل بيده قدراته الإبداعية، وسلمها لجهاز ذكي ليستعبده ويصبح في نهاية القرن هو سيده.لذا أتوقع أن يكون هذا القرن نهاية الإبداع البشري لمعظم الناس المعطلة لقدراتها العقلية ولإبداعها الإنساني، وسيكون لنا -نحن العرب- حصة الأسد من هذه القوة المتوقفة عن النمو من القرن الماضي، وستنحصر قدراتها في تلقط وسرقة ما تمن به الأجهزة ذات العبقرية الميكانيكية التي ستسرق وتمحى حتى تواصلنا الإنساني وترابطنا العاطفي الحميمي، لأنها ستبقينا معلقين من أصابعنا وعيوننا في شاشاتها المضيئة عبر تواصل كاذب لا إنساني يستلب حميميتنا الأصلية الحقيقية التي يجب أن تتواصل مع من حولها من وجود يتطلب الترابط والبناء، ليعمق ويوثق المشاعر الصادقة التي هي الأساس لوجودنا الإنساني الحميم.الزمن القادم هو زمن الآلة بجدارة، وسيبني حضارة لا إنسانية لن تعتمد على إبداع العقل الإنساني، لا في البناء والعمارة ولا في الفن والهندسة، وسيكون تراثها هو ما ستنتجه وتحققه على كل الصعد هذه الأجهزة الذكية المصنعة والمزروعة في شكل الآلات صغيرة الحجم، عظيمة القدرة والقوة في فعاليات صنع حضارة مستقبلية، سيكون فيها الإنسان خادماً وتابعاً لها منفذاً لكل شروطها وآلياتها.