في النهاية، لا مفرّ من توديع كل شيء... سرعان ما تعود القصص المتلاحقة التي قرأناها وشاهدناها إلى زوايا العالم الذي أصبحنا عاجزين عن إيجاده أو سرعان ما نودّع {المظاهر التي تتلاشى} كما يذكر شعار ملصق فيلم Heaven’s Gate (بوابة السماء).
هل يكون انجذابنا إلى الوداع الطويل مجرّد حنين مبتذل أم يعكس شعوراً صادقاً ودائماً رغم تناقضه؟ يتوقف الوضع على الشخص الذي يسرد القصة.خصّص الكاتب والمخرج تيرنس ديفيس الذي يبلغ اليوم 70 عاماً مسيرته السينمائية لاستكشاف ما مرّ به، بدءاً من طفولته مع أب عنيف وغير متفهّم وصولاً إلى منافذ الهروب المتنوعة وأشواقه الرومانسية (يبقى فيلمOf Time and the City (عن الوقت والمدينة) الذي يروي طفولته في {ليفربول} من أعظم القصص الشخصية التي عُرضت على الشاشة). ينشغل ديفيس بمسائل العائلة والوحشية والهروب وسحر الأغاني الشعبية والزمن بحد ذاته.طوال سنوات، كان ديفيس يسعى إلى اقتباس رواية Sunset Song (أغنية الغروب)، أول جزء من ثلاثية لويس غراسيك غيبون. مثل الفيلم السابق الذي اقتبسه ديفيس من مسرحية تيرنس راتيغان، The Deep Blue Sea (البحر الأزرق العميق)، يروي العمل قصة حب جميلة وحزينة في زمن الحرب.
مقاطع مؤثرة
يبدو بعض أجزاء فيلم Sunset Song من أفضل أعمال ديفيس. يرتكز التصوير على خليط من جهاز تناظري لتسجيل الفيلم بحجم 65 ملم وكاميرات رقمية، وتلتقط كاميراته القوية بعض المقاطع المؤثرة بكل سلاسة وتتعارض عمداً مع المشاهد الوحشية المطروحة. يكون بعضها فنياً بشكل ضمني (في أحد المشاهد، يجتمع المحزونون وكأنهم يتموضعون كي يرسمهم رامبرانت)، بينما يعكس البعض الآخر تقنية سينمائية بامتياز.في لحظة معينة، يكون الزوجان الاسكتلنديان الجديدان (يؤدي دورهما أغينيس دين وكيفن غوثري) محاطَين بالمدعوين إلى الزفاف أثناء إنشاد أغنيةAuld Lang Syne.تذوب اللقطة في مشهد متطابق للزوجين، وحدهما، وهما ينشدان آخر سطر من الأغنية. إنه تكتيك مألوف لكنه مناسب جداً للمشهد.هذه القصة قيّمة جداً بالنسبة إلى اسكتلندا. تدور أحداث رواية Sunset Song في السنوات التي تسبق الحرب العالمية الأولى وخلالها، وقد نُشرت في عام 1932 وتحتل غالباً المراتب الأولى على لائحة أكثر الروايات المحبوبة والمهمة محلياً. تُدعى بطلة القصة كريس غوثري، واحدة من ستة أولاد وابنة مزارع مستأجر تقترب من عمر العشرين وتدرس كي تصبح معلمة. يجسّد بيتر مولان، الذي تعامل مع عدد كبير من أولئك الرجال الصارمين والمتوحشين سابقاً، دور والدها وينشد الأغاني في الحقل لكنه يواجه فوضى مريعة بسبب شياطينه الداخلية، بما في ذلك ميوله المحرّمة تجاه كريس. تُبقي النسخة التي اقتبسها ديفيس شخصية كريس بعيدة إلى حدّ ما عن قصتها الخاصة، مع أننا نسمع أفكارها عبر صوت مسجّل يكفي للاستمتاع بلغة غيبون الشاعرية السلسة.يتخلى أفراد العائلة عن كريس، واحداً تلو الآخر، وفي منتصف الأحداث يصبح فيلم Sunset Song عبارة عن أغنية سعيدة على نحو غريب، فتترقّب المرأة المتحررة حديثاً والسعيدة باستقلاليتها المكتسبة حياة طويلة ومثمرة مع حبها الجديد. يؤدي كيفن غوثري دور حبيبها إيوان تافندال. تعيد دين إحياء نفسها في هذه المشاهد العاطفية حيث تعكس القصة حميمية طبيعية وتتنقّل بين سرد الأحداث والكشف عن جوانب أخرى من شخصية كريس.يجرّب ديفيس حيلاً لم يجرّبها أي شخص آخر، فيخصص مساحة واسعة لمقاطع الجوقة الموسيقية: في هذه المشاهد تعبّر الشخصيات الفردية ومجموعات الشخصيات عن مشاعرها بقصائد أو أغانٍ شعبية (يعشق ديفيس المسرحيات الغنائية الأميركية!). حين تقترب القصة من بداية الحرب العالمية الأولى ويضطر إيوان إلى الانضمام إليها بضغطٍ من المجتمع، تتخذ حياة كريس منحىً قاسياً لكن لا يستحيل تجاوزه.ربما يفتقر فيلم Sunset Song إلى بُعد محدد، لكنه يعكس الجوانب المفقودة في أداء دين ويقدّم مستوىً مقبولاً بعض الشيء (كانت كيلي ماكدونالد من فيلم Trainspotting (رصد القطار) لتتألق في هذا الدور). تقوم الممثلة بكل ما يُطلَب منها لكنها تبالغ في أدائها أحياناً. من وقت إلى آخر، يطيل ديفيس ومصوره السينمائي مايكل ماكدونو اللقطات المصورة في الحقول أو المجازر في ساحات المعركة، فيتوقف سرد القصة مؤقتاً.لكن لا يسعى ديفيس إلى استعمال مقاربة واقعية مباشرة أو أسلوب مريح ومألوف يشبه نمط المشاريع التي كانت شركة Merchant Ivory تنتجها في عام 1993. بل تعكس القصة التي يسردها أسلوبه المتأرجح. تتحدث كريس شخصياً عن تخبّطها بين ثقافتين وعالمَين: الكلمات الإنكليزية {اللاذعة والدقيقة والحقيقية} التي تعلّمتها في مدرستها مقابل المحيط القاسي في زاويتها من العالم الذي يتلاشى سريعاً بالقرب من {أبردين}.سبق وتحولت رواية Sunset Song إلى مسلسل اسكتلندي قصير على قناة {بي بي سي} في عام 1971. ويقدم ديفيس الآن نسخته الخاصة ويصور المشاهد في مجموعة متنوعة من المساحات الطبيعية المبهرة التي وجدها في اسكتلندا ولوكسمبورغ ونيوزيلندا، وتبدو نسخته ممتازة!