نادراً ما نقع على إصدار شعريّ، في زمننا هذا، نظيف من غبار ميادين القتال، وبعيد من شلاّلات الدم، إذ إنّ الموت الكثيف على بشاعة يمدّ ظلاله على بساط اللّغة العربيّة الشعريّ. وحين نصادف قصيدة جديدة تحمل الحبّ بين جناحيها تسكننا الدهشة البيضاء ونشعر بأنّ الحبّ وحده يملك الردّ الجميل على كلّ ارتكاب أسوَد لا تكفّ عنه يد الإنسان.

Ad

في جديدها الشعريّ «عن نجمة هَوَت» تعلن الشاعرة كريستين حبيب إبحارها الدائم قِبلة الحبّ، ولو أنّه يزور متأخّراً، لكنّه يستطيع أن يأتي بالعمر إلى صاحبه، وأن يأتي بالعاشق إلى ذاته: «أنتَ الآتي إليّ أبداً باسم الحبّ / ... شكراً لعمرٍ جاء متأخّراً / جاء بنا... إلينا.»

على امتداد الديوان تعتمد حبيب النصّ القصير، وتحاول فكرة واحدة في نصّها، بعيداً من الهدر اللغويّ، على وضوح يحتضن رمزيّة شفّافة. ومن بدايات بوحها، تبدو الشاعرة بحريّة المزاج، لأنّ البحر يحترف البقاء ويكتفي بمدّ وجزر ليملأ رئتيه هواء: «ففي مدّه وجزره وفاء / وفي بعده وقربه بقاء». وهو إذا أراد انسحاباً لا يبلغ ألم الرحيل، وإذا اتّسع صدره للألوان لا يحمل الكذب على حرير صوته، وإذا أغرته سفينة رقص وإيّاها في وسط الساحة الزرقاء دون أن تدركه بشاعة الخيانة: «ينسحب... لا يرحل / يتلوّن... لا يكذب / يراقص سفينة، لكنّه لا يخون». وتعرف حبيب أنّ الحبّ أبو الجمال وأمّه، وأنّه نافورة الدفء الفريدة، وحين يغيب تحضر البشاعة مكلّلة بالصقيع ويعرى الصّدر ويتنازل زهر اللّوز عن حضوره كما يتنازل القطن عن الإقامة في بياض الغيم: «حين يرحل الحبّ / تقف بوجه القبح والبرد / بصدرٍ عارٍ / بلا درعٍ من زهر اللوز / وقطن الغيم». وحبيب في الحبّ تهوى الترامي والانبساط على اتّساع، فهي السّهل، غير أنّ الفاتح أشرعته نحوها رأى في تراميها القمّة فصار النسر يحلّق بلا ثمن لصلابة جناحيه، ثمّ رأى في تراميها الوادي فأمسى النهر محمولاً على كتف الهدير غير أنّه لم يستطع أن يترك على عطش السّهل وشماً بمائه الكثير: «كنتُ سهلاً / لكنّكَ ظننتني قمّة / فتحوّلتَ نسراً. / ثمّ خُيِّل إليك أنّني وادٍ / فصرتَ نهراً هادراً./ والله إنّي كنتُ سهلاً... / إسألِ السنابل». وتحت سحابة إلحاح مائيّ تلوذ حبيب بالحنين إلى رجل يطلع عليها من علب الهدايا كما المارد من قمقم، إلاّ أنّه لم يزُر يوماً وفي يده الهديّة: «لماذا تخرج عليّ من علب الهدايا، / وأنتَ لم تأتني يوماً بهديّة؟»، وإذا كان هذا الرجل من ابتكار الحلم فالمطلوب أن يصير زهرة في حديقة الحقيقة، وأن يتجسّد رجلاً قادراً على تأبّط نهر لغابة يتسلّق شجرها ضحك الأطفال حين أمّهم بحّار بلا شراع وامرأة تمضي في زواج طويل مع الريح: «ماذا أريد في العيد؟ / أريد نهراً لغابة أطفالي / وشراعاً لأمّهم / التي تزوّجت الرّيح». وفي قصيدة «فعل ماضٍ كامل»، تمدّ حبيب عينيها صوب شرفة الغد، فترى أنّ كلّ غد يصير إلى أمس، وما هي إلاّ أمس حبيبها، وترى فصول الطبيعة متجذّرة في تراب الحبّ أيضاً، فلكلّ صيف شتاء يكفّنه، ولكلّ نيسان مطر يحمله إلى جزيرة النسيان القصيّة: «غداً أصير أمسك / وموجة ذابت على شاطئ تمّوز/... الثلج يدفن دوّار الشمس / تحت الجليد / تحت الصقيع / والمطر يسقي نبتة نيسان، / حتّى الغرق، / حتّى النسيان».

    وتبدو حبيب أكثر تألّقاً حين تميل إلى النّصّ الأقصر، الذي لا يتعدَّى الجملة الواحدة وهو قادر على أن يقول كلّ شيء بقليل من الكلام، وكثير من الإيحاء، بقليل من الشراع وكثير من السفر: «يا صانع المطر إجمع غيمتينا». فكم استطاعت الشاعرة، بخمس كلمات، أن ترسم لنا مشهداً كاملاً، لا يضاف إليه لا عنصر لغويّ ولا عنصر صُوَريّ. وكم هو رائع هذا الصانع المطر، الذي ترفع الصلاة إليه بلا صلاة، وهو يعرف تماماً كيف يدعو غيمتين إلى الرحلة نفسها فتسكبان مطرهما فوق السهل نفسه!... ومن نصّ إلى آخر، تتّسع نظرة حبيب إلى الحبّ، فهي تريده بكماله، تريد رجلاً وامرأة يؤلّفان إنساناً واحداً، إنساناً ليس فيه محوٌ وذوبانٌ، إنّما هو النموذج، هو المصباح الذي يضيئه الحبّ عند بوّابة الدنيا ويشتهي نوره الداخلون إليها، الناشدون قلوباً تخفق حنيناً واشتياقاً: «وما أجمل من قيثارة / سوى قيثارتين / تصيران قيثارة».

    وفي قصيدة «أحمد (بتصرّف)» تطلّ حبيب من نافذتها على حديقة الشاعر محمود درويش الذي تعتنقه ظلاًّ ثانياً، وإلى درويش مضت حبيب بلغة درويشيّة المجاز والطقس. نادت: «فلم يُجب سوى أحمد / أتى وساعاته»، ليتحوّل الوقت قمحاً وتُفرَك الدقائق بالأصابع: «فَرَكنا الدقيقة تلو الدقيقة»، أمّا السمك فيعبر الجفاف إلى ملحه: «جفّفنا السمك حتّى الملح»، وأمّا الريح فتترك الهبوب من رئة جبل وصدر وادٍ لتخرج من الخاصرة: «من خصرنا خرجت الريح... / كلّ الريح»... وليكتمل النّفس الدرويشي لا بدّ من دعوة الغزالة إلى عشب القصيدة الشهيّ لاتّقاء البندقيّة وتسلّق سلّم الجمال وصولاً إلى سحابة الحلم الزرقاء: «أنقذنا الغزالة من البندقيّة / رسمنا سلّماً / صعدنا صعدنا... / حتّى التأم الحلم».

    ولا تخفي حبيب تطرّفها، فهي ترى المسافة بين الأبيض والأسود فارغة من الألوان، إذ إنّ الرّمادي لم يزر رغبتها يوماً: «أمقت الرماديّين / مكتملة التطرّف أنا»، وهي حين يلحّ على خاطرها البياض تتدوّر بدراً على كتف ليل حزيرانيّ، وحين يغريها عنب السّواد تتكوّم ليلاً استجابة لبدر يطرق باب كانون منتظراً ردّ ليلة من ليلاته: «بيضاء حيناً، سوداء أحياناً / سوداء حيناً، بيضاء أحياناً / بدرٌ لفلك حزيران / ليل لبدر كانون».

    ومن الملاحظ أنّ حبيب تغريها الموسيقى اللغويّة أحياناً وتستجيب لها، كأن تلجأ إلى جناس ناقص طرباً واستسلاماً للإيقاع وإن لم يكن الكلام مثقلاً بالإيحاء: «يا من كنتَ خيمتي / كيف صرتَ خيبتي؟»، كما أنّها تتنازل بين نصّ وآخر عن التكثيف المطلوب في النصّ القصير لكي يغدو مكتفياً باكتماله، فتجنح نحو العاديّ، أو القريب من العاديّ: «لا تقصّ عليّ الحكايات / فأنا هي الشهرزاد»... «ماذا تظنّ نفسكَ فاعلاً؟ / غداً أصيّرك مفعولاً به / أو ربّما / ضميراً منفصلاً»...

    في «عن نجمة هَوَت» تجلّت كريستين حبيب واحدة من عشّاق الجمال الخبراء في مجاذبة المفردات والمعاني المحسوبة على القصيدة، وهي المسكونة بالشعر، الخائفة موتاً يصل مفاجئاً، فهو بحدّ ذاته لا يؤلم، إنّما مكمن الألم في أنّ قصائد كثيرة تكون قد حُرِمت الولادة ونعمة الحياة: «إن حصدَتني عبوة غداً / كأقحوانة على حافة رصيف / لن أحزن سوى على / قصائد كانت أبطأ من الموت».