حسن م. عبدالله في «مولانا الغرام» قصائد من حبّ يحيي... وحرب تميت
من الملاحظ أنّ النصّ القصير أمسى يستهوي عدداً كبيراً من شعراء الحداثة، ومن الذين لا يسمّون نثرهم شعراً أيضاً. ولا شكّ في أنّ عصرنا السريع يرتاح لنصّ قليل الكلام، إلاّ أنّ هذا النصّ قد يكون الأصعب، إذ إنّ الصعوبة تكمن في الضغط والتكثيف وقول كلّ شيء بشيء من اللغة قليل.
في جديده الشعريّ، يلوذ الشاعر حسن م. عبدالله بالحبّ مَلِكاً، مهدياً قصائده إلى «نار الكتابة»، تلك النار التي تضيء صدور المفردات بالبراعم وتجود عليها بالعمر الطويل، ومطلقاً صوته قِبلة الله فتكون الكلمات جمراً في يديه: «أشعلْ يديَّ بالكلمات/ وانشرْ عليها برق الكتابة».
في جديده الشعريّ، يلوذ الشاعر حسن م. عبدالله بالحبّ مَلِكاً، مهدياً قصائده إلى «نار الكتابة»، تلك النار التي تضيء صدور المفردات بالبراعم وتجود عليها بالعمر الطويل، ومطلقاً صوته قِبلة الله فتكون الكلمات جمراً في يديه: «أشعلْ يديَّ بالكلمات/ وانشرْ عليها برق الكتابة».
يتوحّم عقل الشاعر حسن م. عبدالله على اللغات بساديّة ووحشيّة: و{العقل كالحبلى/ مخاضه/ وحش يجوع إلى اللغات»، وتتقمّص روحه جملته لتلتهب الكلمات قصباً على ضفاف العمر: «جملتي/ روحي الجميلة/ فلا تتركني يا ربّ/ وأشعلْ ضفاف العمر بالكلمات». ويمضي عبدالله إلى المرأة مطلِعاً منها النّبع، وجاعلاً فضل مائها على مائه: «تحتار إن كانت قد خُلِقَت قبل النبع»، وإذا كان من علاقة بين الماء والسماء فهي التي نسجتها وباركَت بأنوثتها ماء الغمام: «تمطر ماء في الماء/ وبلآلئها/ يتّصل النبع بألف سماء»... أمّا الشّعر فالمرأة بوصلته، ويدها حين تعدّ خفقات القلب على أصابعها يعذوذب شعر ويطلع من فم صاحبه متعثّراً بورد الأصابع: «ألمسي قلبي/ ليصير الشّعر عذباً/ ولا تبخلي على فمي/ بورد أصابعك».ومن نصّ إلى آخر، يلاحظ القارئ أنّ عبدالله المحافظ على قِصَر نصّه، لا يحافظ على كثافته الشعريّة دائماً فهو يبوح أحياناً ناسياً ما فيه من شاعر، فيقول لأنثاه: «يا حبيبتي التي تواريني في عمقها كلّما ألمّ بي ألم»... ثمّ يعود إلى الشاعر الذي فيه ويقول: «يا حبيبتي التي تكتبني كلّما انفرط عقد عقلي/ يا حبيبتي/ افتحي باب المدينة لأطلق قلبي/ نسراً في الفضاء». وليس الفصل بين المرأة والمدينة عند عبدالله يسهل، فـ{مريم» راعية بلا قطيع: «تقود... أبيض الغيوم»، وتعطي رئة الفصول من أنفاسها، وهي تختصر مدن الدنيا بمساحة لا تتعدّى صدرها: «مريم امرأة تلد الياسمين من ضحكتها/ وعلى صدرها تنمو المدُن»...
ولا يكتفي عبدالله بالحبّ، وبمولاه الغرام، إنّما يوزّع حبّه بين إنسان وأرض، وفي «ممتلكات خاصّة»، يظهر متشظّياً على أماكن عدة، فلبيروت عنده تاج وصولجان، ولصيدا ذهب ذاكرة موجوعة، وللخيام ظلام يؤلّف قبراً، إضافة إلى مطارح لا تزال تحتفظ له برداء أو حذاء: «بيروت مملكتي/ صيدا ذاكرتي/ الخيام قبري/ وفي نواصي الأرض/ بقيَتْ لي سترة هنا/ أو حذاءٌ هناك». ويتعملق عبدالله بألمه، ليصير مرتدياً جبلاً من حجارة: «ليس ما تراه جبالاً/ هوذا أنا تعتليني حجار»، والغيم فوقه صخر بلا ماء: «وغمام من رخام»، والشمس لم تسجّله في ذاكرتها جبلاً، ولم تبح باسمه لقمر، وكذلك البحر لم يرّ في خاطره سوراً من الأسوار المرتفعة البعيدة: «لا شمس تشرق من ورائي/ ولا قمر من أمامي/ والبحر أبعد ما يكون»... والشاعر ينمو والفجيعة تحت قنطرة عمر واحد، ويتّسع جسده لهزائم لا تشيخ: «مذ كبرتُ كبرَتْ في جسمي الهزائم»... وألم عبدالله ليس ألماً شخصيّاً أسير دائرة وجوده فقط، إنّما هو يتخطّاه ليتبنّى ألم الآخرين، ولذلك هو حريص على عدم إيقاظ حبيبته، فهو خائف عليها من الجريدة التي لم تعد تتّسع لأسماء الموتى: «لم أكن أريد لكِ أن تستيقظي/ جريدة الصباح ثقيلة بأسماء الموتى»، ما يجعل: «قهوة الشرفة مُرّة»، وللمجازر أصحاب، وقاتلو الليل: «رفعوا الصباح على رؤوس سكاكينهم»...وانسجاماً مع هذا المشهد المفجع، لا يملك عبدالله سوى الدعاء ليشحذ من السماء إغفاءة لحبيبته علّه في هذا الحين يؤلّف بلاداً جديدة تطلع من رواية: قلتُ فلتَنَم حبيبتي قليلاً/ ريثما أكمل رواية بلاد جديدة». ويصل عبدالله إلى «خواء» ليتجلّى ممزّقاً بين ذاته والقصيدة، فالقصيدة تتوّج صفصافة وتجاذب الريح: «قصيدتي عالقة أعلى الصفصافة/ كلماتها تائهة بين أغصانها/ إيقاعها يلاعب الريح»، وهو عند جذع صفصافته أكثر هشاشة منها، سامعاً دويّ انهياره العميق عارفاً الخيبة التي ستهديها إليه قدماه الترابيّتان: «أنهار في وحدتي/ آه من قدميّ الترابيّتين». بعد المعركةويعود عبدلله إلى ذاته «بعد المعركة» جرواً عارياً من كلّ نبض بشريّ، يلهو بما تتركه الجريمة من آثار: «حزين كجرو ضائع في زقاق خلفيّ/ لا سلوى لي غير ما خلّفه المسلّحون الجرحى/ ضمّادات ورسائل بالية». إنّها الحرب التي تستوطن الشاعر ويحاول طرد أشباحها عنه بالحبّ، ولذلك نجده ينثر قصائد حبّه بين قصائد تقول وجعاً آخر. كما يحاول مباركة الألم باعتباره يشدّ الإنسان إلى وجوده ويجعله يغتني بنعمة الجذور ولو أنّ هذه الجذور ضاربة عميقاً في تراب الفجيعة، فمهما قسا ألم بقي أرحم ألف مرّة من عدم: «لا بأس من الألم/ قبل الظهر وبعده/ لا بأس من الندم/ إنّ ذلك أفضل بكثير/ من الغياب في العدم». ويستمرّ عبدالله راضياً عن ألمه، مستكملاً مشهد المذبحة في «أولويّات»، ويعلن أنّه بصدد ترتيب مخاوفه: «الليلة أيضاً سأرتّب مخاوفي/ حسب الأولويّات/ ... سأنفض الجليد عن آلامي/ أجدّدها»... نعم، إنّه يشدّ على يد الألم ليعطيه هويّة لا يذهب بها النسيان، هويّة وجوديّة في عالم ميت: «لكي أتحسّس وجودي في هذا العالم المشلول/ أتّبع قمر المذبحة»...وماذا خلف عبدالله؟ موت كثير، موت تبنّته قبائل، ونساء وئدت أنوثتهنّ في رمل السبي: «خلفي قبائل أنهكها القتل/ عيون مفتوحة على النجوم إلى الأبد/ أتبع نسبي ونسائي المسبيّات/ وحسبي الله»...وبين حبّ وحرب، يراوغ عبدالله في استخدام ضمير المخاطبة، ويقع القارئ في فخّ الالتباس: مَن هي؟ أمّ؟ حبيبة؟ جدّة؟ مدينة؟... لا انتهاء لسبحة التساؤل هذه. المهمّ أنّها هي. هي التي حين لا يبقى خيط في السجّادة تحوك بإبرتها الحكاية رداء عراة: «لا تزالين/ بإبرتك الأخيرة/ تنسجين الأساطير في لحم العراة»، وهي التي حين تدقّ ساعة الحقيقة توقظ في المرايا وجوه القتلة: «تُدخلين الحكايا في المرايا/ لكي يتصرّفوا/ حين يأتي القتلة إلى وجوههم»... وهي التي حين يموت موعد القُبل يبقى في شفتيها قبلة لقتيل: «تطبعين قبلة على عنق القتيل، ثمّ تذهبين وحيدة في أروقة الوقت الثقيل».في «مولانا الغرام» حضر حبّ يحيي وحرب تميت، وحضر الشّعر ليبعث ما احتضنه وجدان حسن م. عبدالله حيّاً.