ثلاثية غرناطة والتاريخ الذي يعيد نفسه
أدبيات الشتات والاقتلاع والتهجير تظل من أكثر التدوينات تأثيراً وتوثيقاً. ذلك أنها لا تكتب تاريخاً فقط، وإنما تخوض في أشد كوارث الشعوب فداحة وخسراناً. وهي إذ تنبش في الماضي فإنها بلا شك تصنع ذلك الجسر من التذكّر والاسترجاع، فتبدو الأوجاع متراكمة مثل سرطانات لا تشفيها السنوات والعقود ولا حتى مرّ القرون المتعاقبة.ولعل سرّ تجدد المرارات حول الكوارث البشرية يكمن في أنها تعيد نفسها بصورة أو بأخرى وتدفع قسراً إلى المقارنة والمشاكلة. فرضوى عاشور التي كتبت "ثلاثية غرناطة" في عمقها الإنساني الفجائعي، هي ذاتها من كتب رواية "الطنطورية" حول كارثة الشتات الفلسطيني وتداعياته الممتدة على مدى سبعة عقود. وربما لو امتد بها العمر لكتبت حول الشتات والتهجير السوري أيضاً في نسخته الحاضرة!
هكذا تزامنت قراءتي لثلاثية غرناطة مع استرجاعي "للطنطورية" مع معايشتي لمأساة المهاجرين السوريين وصور أطفالهم المتناثرين جثثاً على سواحل الشتات الغريبة والبعيدة. ووجدتُ الكثير من متشابهات القهر الإنساني وغلبته على أمره. ورأيت كيف يدفع بسطاء الناس وعامتهم أثماناً باهظة لصراعات ومصالح صنعها الكبار، ليصبح أولئك العامة والبسطاء وقوداً ورماداً في مجامر الساسة والمتنفذين. إنها لعبة الأمم الدائرة منذ الأزل ولا رادّ لقضائها. ثلاثة أشياء استوقفتني في رواية "ثلاثية غرناطة"، الأول مشاهد الرجال -وخاصة من كُبرت مكانتهم وأثرهم في المجتمع الغرناطي– وهم يُساقون عنوة بأيدي القشتاليين إلى مراسم التنصير القسري في ثياب الذلّ وقلة الحيلة. الثاني مشاهد أكوام الكتب والمصاحف والمخطوطات وكل صحيفة تحمل خطاً عربياً وهي تُكوّم في الساحات ليتضرم فيها النيران، مع ملاحقة كل من يقتني كتاباً باللغة العربية بأشد العقوبات وسوء المصير. الشيء الثالث هو مشاهد الغرناطيين من العرب والمسلمين وهم يُساقون قسراً نحو البحر لتأخذهم المراكب نحو الترحيل النهائي بلا عودة، بعد أن صودرت أملاكهم ومُسخت هوياتهم واجتُثّت جذورهم الممتدة عبر ما ينوف عن ثمانية قرون في أندلس كانت وطناً ومستقراً.في "الطنطورية" تتدرج مشاهد الشتات وتتوالى، من مخيمات 48، مروراً بمخيمات لبنان ومذابح صبرا وشتيلة، وانتهاءً برحيل الفلسطينيين إلى منافيهم المتناثرة في الخليج ولبنان والأردن وأميركا وكندا، ليظلوا كما عبّر إدوارد سعيد "خارج المكان"، وفي تحدٍ دائم مع الهوية الملتبسة.لا شيء مختلف الآن في مأساة السوريين، غير أن عدوهم متعدد الوجوه والأقنعة! فهو السلطة الحاكمة المستبدة حيناً، وهو العصابات المسلحة بمسمياتها المتنوعة حيناً آخر، وهو الدواعش بوحشيتهم وغرابتهم أيضاً. وتماماً كما أحرقت الكتب والمخطوطات العربية والمصاحف في عهد الأندلس الغاربة، تُحرق الآن المقتنيات الأثرية وتحطم الآثار وتُقطع الرؤوس وتُسبى النساء وتُباع الحرائر وتُقصف المدن في مشهد لم يُرَ أكثر منه دموية وبشاعة! وأخيراً وليس آخراً تعود مشاهد التهجير والشتات في أشدّ صورها قتامة، وينشغل العالم في لملمة الجراح أو كفكفة الدموع بعد أن ضاقت الحيل وسُدّ باب الرجاء.سيكتب الكثيرون عن مأساة السوريين، وستُخط الروايات الطويلة في توثيق هذا التاريخ السياسي والشعبي، وسنستمر في القراءة وإرسال التنهدات المتأسفة على هكذا حكايات. وسينشغل المثقفون في صياغة مواقفهم وتدبيج آرائهم، والكتّاب في كتابة مقالاتهم، والفنانون في رسم لوحاتهم والموسيقيون في تلحين أغانيهم المنتحبة. وسيكتمل بهذا إرث ثقافي يتأسس على هامش مشهد سياسي سريع الإيقاع، بطلُه الإنسان المنتهك الذي يقف بلا حيلة، ومدونُه مراقب يشخص بالأحداث ويرسلها نحو مستقبل غامضٍ مكتظ بالاحتمالات.