يتخلى مهرجان دبي السينمائي الدولي عن تحفظه المعتاد، ويدخل معترك السياسة.

Ad

قناعة تولدت لدي، بقوة، بعدما استمعت كلمة عبد الحميد جمعة رئيس المهرجان في حفل افتتاح الدورة الثانية عشرة للمهرجان (9 – 16 ديسمبر 2015)، وتبنى من خلالها موقفاً سياسياً لم يخش أن يُجاهر بإعلانه، ولم يؤرقه التفكير في تداعياته، ومن ثم توالت ردود الفعل الإيجابية فور انتهاء الحفل، وكلها أثنت على شجاعة الرجل في هجومه الضاري على من سماهم «معتنقي الأفكار الرجعية، والرؤى الظلامية»، وجرأته في فضح «من يريدون لنا الانزواء، ويحاصروننا في الأماكن الضيقة، والزوايا الحادة، ويريدون للمرأة أن تُباع وتُشترى، وللعبودية أن تعود».

تحدث «جمعة» عن أهمية «الوقوف في وجه الفوضى، وعدم السماح للأقلية أن تحكم الأغلبية» مختتماً بقوله: «لم يعد هناك مكان للاختباء أو السكوت، ولا بد من دحر كل ما هو غير إنساني وبشع، فقد اخترنا الخيال والأمل وعقدنا العزم على محاربة التطرف بكل أشكاله» وهتف: «لتحيا السينما ويبقى الأمل».

الإثارة التي اتسمت بها الكلمة ليست في ما تضمنته من تنديد بدعاة التطرف، بل لأنها قيلت في افتتاح مهرجان يُقام تحت رعاية صاحب السمـو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس دولة الإمارات، رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، وفي حضور سمو الشيخ منصور بن محمد بن راشد آل مكتوم والشيخ جمعة بن مكتوم بن جمعة آل مكتوم وعدد من الشخصيات المهمة في الدولة، وأمام كوكبة كبيرة من الضيوف العرب والأجانب، وعلى مرأى ومسمع من وكالات الأنباء العالمية، والمحطات الفضائية، التي بثت الحدث.

اللافت للنظر، أيضاً، أن كلمة «جمعة» لم تكن منفصلة، على الإطلاق، عن الرؤى والأطروحات التي تبنتها غالبية الأفلام المعروضة في الدورة الثانية عشرة للمهرجان، وإنما جاءت متسقة معها بدرجة كبيرة، بل إنها جاءت بمثابة ترجمة عملية للموقف السياسي للمهرجان، الذي أعلن الحرب على الإرهاب، وناهض الأفكار الرجعية، وفضح أصحاب المواقف الرمادية. فالغالبية العظمى من الأفلام التي اختيرت للعرض في الدورة الثانية عشرة تمحورت حول قضايا: التنديد بالظلم والقهر والعبودية والسادية و{اغتيال الفكر» و{القتل المجاني» و{الاغتصاب المعنوي».

القراءة المتأنية لفيلم الافتتاح «غرفة» (كندا/ إيرلندا 2015) تنفي عنه كونه يرصد أزمة امرأة اختطفت في شبابها، وإنما هو فيلم عن ظاهرة «الاختفاء القسري»، وعن القهر في أبشع صوره، فالغرفة هنا صورة من العالم الذي نعيشه، وما يجري فيه من انتهاكات، كما أن الفيلم يفضح دور الإعلام الذي يتاجر بالهموم، ويبيع الآلام!

الأمر نفسه بالنسبة إلى الفيلم الروائي الطويل «زنزانة» (الإمارات العربية المتحدة والأردن/ 2015) الذي يتبنى توجهاً مناهضاً للفاشية، والسادية، إذ إن المخرج ماجد الأنصاري يحذر من مغبة وقوع السلطة في يد مخبول يسعى إلى استغلالها في السيطرة على البشر، والتنكيل بمن حوله، مثلما يرصد معركة غير متكافئة بين الجلاد والضحية. أما فيلم «حكاية الليال السود» (الجزائر وفرنسا / 2015 ) فيحمل رسالة تحذير أخرى من مخرجه سالم الإبراهيمي مفادها أن «العشرية السوداء»، التي عصفت باستقرار الجزائر، نتيجة التعصب والتطرف والهمجية وفرض الرأي بالقوة والفهم الخاطئ للدين، هي المصير المتوقع، والمحتوم، للكثير من الدول والشعوب، ليس في المنطقة العربية فحسب وإنما في العالم بأسره. ومن المنطلق نفسه يجرنا فيلم التحريك «بلال» (الإمارات العربية المتحدة / 2015) إلى حديث ذي شجون عن القيود والعبودية والاضطهاد والحرية. فالفيلم الذي شارك في إخراجه الباكستاني خورام علافي والسعودي أيمن جمال لا يكتفي بأن يحكي، بتصرف، السيرة الذاتية للصحابي بلال بن رباح «مؤذن الرسول»، بل يحمل دعوة إلى العدل والمساواة، والتحرر من القهر والإذلال والطبقية، مثلما يحض على تقريب الهوة الشاسعة بين الأغنياء والفقراء، ونبذ العنصرية، وهي الرسالة، التي يتبناها، بشكل آخر، فيلم «المنعطف» (الإمارات العربية المتحدة، مصر، فرنسا والأردن / 2015). يُعيد الفيلم تذكيرنا بالقضية الفلسطينية، والهم العربي المشترك، عبر ثلاثة رجال وامرأة، تفرقهم الظروف الحياتية، والجنسيات العربية، لكن تجمع بينهم السيارة «الفان»، التي يملكها الفلسطيني «راضي» ابن»جنين»، الذي ولد في الأردن، وينجح المخرج والكاتب الأردني رفقي عساف، على غرار سعد الدين وهبة في مسرحيته الشهيرة «سكة السلامة»، في التأكيد على أن «المنعطف»، بتفاعلات أبطاله، وتناقضاتهم، وأيضاً اختلافاتهم، كان سبباً في تغيير المسار، وربما المصير، وأن حَيَوات الفلسطيني «راضي» والسورية «ليلى» واللبناني «سامي» ستختلف كثيراً، وسيكون لها شأن آخر، بعد «المنعطف» الذي هز الكثير من الثوابت، وزلزل الكثير من الأفكار، وهو ما فعله المخرج عمر شرقاوي في فيلمه الروائي الطويل «المدينة» (الإمارات العربية المتحدة والأردن والدنمارك/ 2015) الذي جاءت رؤيته جريئة لكنها صادمة... وهي أفلام سنتحدث عنها، وغيرها، بالتفصيل في مقالات تالية!