هل تتحول سورية إلى أفغانستان ثانية لروسيا؟ وهل من الحكمة أن تتدخل روسيا في هذا الصراع؟ تسري شائعات عن أن موسكو تخطط لمناورة تحفظ ماء الوجه "تسلم" خلالها تدريجياً دومباس، إتماماً لاتفاق منسك، مساعدةً في الوقت عينه الائتلاف المناهض للدولة الإسلامية الذي تقوده الولايات المتحدة في سورية لتصلح علاقاتها مجدداً مع الغرب، وتبدو هذه الخطة جيدة من الناحية النظرية، لكنها تُعتبر مستحيلة من الناحية العملية. لا شك أن البيت الأبيض ما زال يرفض بعناد نظام الأسد واحتمال أن تقدم روسيا المساعدة العسكرية والتقنية (فكم بالأحرى الجنود؟) لقواته؛ لذلك دعت الولايات المتحدة حلفاءها إلى إقفال مجالاتهم الجوية أمام الطائرة الروسية المتجهة إلى سورية.

Ad

بالنظر إلى لهجة الرسائل الصادرة من واشنطن، قد يفرض الغرب قريباً العقوبات على روسيا بسبب دورها في سورية، فضلاً عن دورها في أوكرانيا، وبما أن الأسد ينفذ ضربات جوية مكثفة ضد المناطق السكنية التي تحتلها "المعارضة"، فإن الغرب يعتبره المذنب الرئيس وراء معاناة المدنيين وما يتكبدونه من وفيات، ويدفعنا هذا منطقياً إلى خلاصة مفادها أن روسيا، بمساعدتها الأسد، تزيد الأزمة الإنسانية في سورية ولا تساهم في حلها.

توشك الولايات المتحدة أن تعلن منطقة حظر جوي أمام الطائرات السورية فوق أجزاء محددة من البلد، كذلك نفذت واشنطن ضربات جوية ضد قوات "داعش" في سورية من دون إعلام دمشق.

بالإضافة إلى ذلك، تدعم الولايات المتحدة جهود تركيا (التي انضمت أخيراً إلى صفوف الائتلاف المناهض للدولة الإسلامية، والتي كانت قواتها الأمنية حتى وقت ليس ببعيد تتودد للإسلاميين أو حتى تدعمهم) الرامية إلى إقامة "منطقة أمنية" على طول الحدود التركية-السورية.

لربما بدأ سيناريو تقسيم سورية بحكم الواقع، ولا يملك الغرب أي ميل إلى إشباع رغبة روسيا في مساعدة الأسد في الحفاظ على سيطرته على منطقة اللاذقية على الأقل، هذه المنطقة التي تشكل معقل الطائفة العلوية الحاكمة في هذا البلد. تبدو واشنطن قلقة خصوصاً حيال الشائعات عن احتمال تنسيق الأعمال بين الجيشين الروسي والإيراني، فظهرت هذه الشائعات بادئ الأمر عقب الاجتماع السري الذي جمع الرئيس فلاديمير بوتين ووزير الدفاع سيرغي شويغو قبل نحو شهر باللواء قاسم سليماني، قائد فيلق القدس، وحدة النخبة في حرس الثورة الإيراني.

صحيح أن موسكو تنكر هذه الزيارة وإجراءها أي محادثات مع سليماني، الذي فرضت عليه الأمم المتحدة العقوبات ومنعته من مغادرة إيران، بيد أن الشائعات عن تنامي التدخل العسكري الروسي في سورية بدأت بعيد ذلك.

إن كان بوتين يأمل "الترويج" لمشاركته في التسوية السورية خلال خطابه المقبل أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة بالطريقة عينها التي "مرر" بها خطته بشأن أسلحة سورية الكيماوية عام 2012 (التي اعتبرها أوباما خطوة إيجابية)، فقد يخيب ظنه، فالغرب ليس في مزاج مؤاتٍ "لشراء" أي أمر من موسكو اليوم، بعد أن أصبحت العلاقات معه سيئة جداً بسبب أوكرانيا.

أما بالنسبة إلى فكرة "التخلي عن دومباس" مقابل عملية مذهلة أخرى ينفذها "رجال روسيا الخضر المهذبون"، ولكن هذه المرة في سورية، فمن المؤكد أن محبي الخطوات السياسية-العسكرية المعقدة يبالغون على الأرجح في عرض الاحتمالات الممكن هذه المرة. فالحياة في روسيا والخطاب السياسي في موسكو أبسط من ذلك بكثير.

سئم المواطن الروسي العادي سماع أخبار أوكرانيا، ومن الجلي أن الأحداث في ما يُدعى "نوفوروسيا" فقدت أهميتها وجاذبيتها السابقتين، وإن انتقلت السيطرة على الحدود الروسية-الأوكرانية في دومباس إلى كييف غداً، فلن يشهد الرأي العام الروسي أي رد فعل، باستثناء ربما بعض المدوّنين القوميين.

أعتقد أيضاً أن خطر عودة آلاف المتطوعين الذين قاتلوا في دومباس إلى أرض الوطن وزعزعة الاستقرار هناك مبالغ فيه، ففي الماضي عاد عدد أكبر ممن حاربوا في أفغانستان إلى أرض الوطن، فهل لعبوا أي دور سياسي مهم في البلد، باستثناء تأسيس أنواع معينة من الأعمال وقيامهم بما دُعي نشاطات "التحكيم الأمني"؟ كلا.

ينطبق الأمر عينه على مَن شاركوا في حربي الشيشان، وينتقد كثيرون منهم اليوم "الانتصار" الحالي الذي حققه الزعيم الشيشاني رمضان قديروف، هو نفسه من قدامى مقاتلي هاتين الحربين، فجلّ ما قد يقوم به المتطوعون العائدون من دومباس في نظام روسيا السياسي إدراج أسمائهم في اللوائح الانتخابية لبعض الأحزاب الهامشية التي لا تملك أي فرصة للفوز بالانتخابات. لكن المسألة تختلف عند التحدث عن بقاء دومباس ونوفوروسيا موضوع صفقة سياسية مثيرة للجدل بين الكرملين والغرب، فلن تتخلى موسكو عن دومباس بسهولة، بل ستحاول روسيا إنهاك الغرب، آملة أن تمل أوروبا في النهاية من كييف وثقافتها وممارساتها السياسية غير الأوروبية بكل وضوح، وهكذا قد تفوز موسكو في النهاية بوضع خاص لدومباس، إن لم يكن بحكم القانون، فبحكم الواقع على الأقل، وسيقرر الكرملين على الأرجح ألا يصعد الوضع هناك كي يتفادى أي عقوبات أخرى ومشاكل إضافية في الداخل.

في المقابل، نجح القادة الروس حتى اليوم في إثبات أن العقوبات لم يكن لها "التأثير المدمر" الذي توقعه الغرب، فكما ظن الكرملين لم يبدأ المجتمع بالتذمر، كذلك ما زالت النخبة الحاكمة موحدة إلى حد كبير، في الظاهر على الأقل، ولا يحمل أحد "رأس بوتين على طبق من فضة" إلى واشنطن.

هل تصبح سورية أفغانستان ثانية لروسيا؟ وهل من المنطقي أن تتدخل روسيا في هذا الوضع في وقت تعاني فيه مشاكل اقتصادية في الوطن؟ يبدو الجواب عن السؤال الثاني واضحاً: تُعتبر "المغامرات الأجنبية" آخر ما تحتاج إليه روسيا في الوقت الراهن.

في المقابل، ما من ضمان أن موسكو أو الاقتصاد الروسي سيجنيان الفوائد بأي طريقة من الطرق من "التخلي عن" الأسد، فالعلاقات الثنائية سيئة جداً في الوقت الراهن، حتى إن الغرب لن يكافئ على الأرجح أو يشكر روسيا بقيادة بوتين، مهما فعلت.

لن تتحول سورية إلى أفغانستان ثانية بالنسبة إلى موسكو، ولن تتدخل روسيا في هذا الصراع بمستوى يقترب حتى من الدور الذي أدته في حرب أفغانستان، بل سيختار الكرملين على الأرجح ما يشبه "الحرب الهجينة" في أوكرانيا. ولكن بدل أن يعتمد هذه المرة على المقاتلين "المتطوعين"، ستقدم روسيا، مثلاً "حراس الثورة الإسلامية".

نتيجة لذلك، سيصبح حقل الألعاب الجيو-سياسية الواسعة النطاق والخطيرة أكبر واللاعبون أكثر عدداً، مع سعي كل منهم إلى تحقيق هدفه الخاص، ولن يكون أحد منهم مستعداً للتفكير في العواقب البعيدة الأمد أو للتحاور مع خصومه بشأن تسوية محتملة، وهذا بالتحديد ما جعل البشرية في مراحل مختلفة من تاريخها تنجر إلى حروب كبيرة.