أستاذ علم الإجتماع والأنثروبولوجيا محمد حافظ دياب: الخطاب الديني مُفكك... وتجديده ضرورة
قال الباحث في الحركات الإسلامية المعاصرة وأستاذ علم الاجتماع والأنثروبولوجيا الدكتور محمد حافظ دياب، إن تجديد الخطاب الديني ضرورة فطرية وبشرية، لأن الخطاب الديني الحالي مفكك وفردي، بينما يشهد العالم تجمعات وتطورات هائلة في مجال التقنية والمعلومات والاختراعات. وأضاف في حواره مع «الجريدة» أن أية نهضة أو تنمية في العالم الإسلامي ينادي بها المخلصون من دعاة الإصلاح إن لم تصدر من مفهوم ديني فمآلها إلى الفشل.إلى نص الحوار.
ما العلاقة بين الدين والخطاب الذي يجسده؟الدين والخطاب الديني يتصلان ولا ينفصلان، مثال ذلك أن الإسلام واحد يتجسد في نصوص القرآن والسنة، أما الخطاب الإسلامي فمتعدد ومتباين، لأنه يعكس تفسيرات متعددة ومتباينة لهذه النصوص، تعبيراً عن تباين مواقف ومواقع ومطامع فئات اجتماعية، تتخذ من تأويلها للقرآن والسنة متكئاً لمشروعيتها، وحاملاً لقيمتها، وسنداً لممارساتها، وفي هذا الصدد ثمة من يرى أن الخطاب الإسلامي كفضاء ثابت، تتواجد فيه التحديدات القاطعة والأجوبة والأسس والممارسات الصالحة في كل زمان ومكان، وهو ما يعني ردم تمايزاته والتسوية بينها.ثمة معضلة تاريخية في هذه المسألة؟بالتأكيد ثمة معضلة تاريخية، وهي معضلة الحداثة والتقدم، ونحن لا نريد التفكير في هذه الإشكالية بكليتها، أي في مختلف ملابساتها التاريخية والنظرية، بقدر ما يتوجب علينا مقاربتها عبر تفكيرنا في تقليد رائج ومغلوط يملأ لغة الكتابة في هذا الخطاب وترسخه في صورة مختلفة بعد تصورات له، تلتقي في البؤرة التراثية وتتمركز حول الهوية المغلقة، والتي ترجمت بالخطأ إلى الأصالة، إذ لا جوهر ثابتاً للخطاب الإسلامي، فما أكثر التيارات والاتجاهات المتعارضة والمتصارعة التي تشكل التاريخ الحي لهذا الخطاب. بل ما أشد الصراعات التي دارت بين أصحابه ممن اتفقوا حول أصول العقيدة واختلفوا حول روح الشريعة. ما يعني أن القول بهذا الجوهر قول تجريدي غير تاريخي، يطمس اجتهاد وتمايز تلك التيارات ويسعى إلى تجميد الرؤية الموضوعية لإمكانات وآفاق تطوره، ذلك أنه ومنذ بداية عصر التدوين توزع الخطاب الإسلامي إلى تيارين رئيسين: الأول يتمسك بالموروث الإسلامي ويدعو إلى اعتماده أصلاً وحيداً للحكم، وتيار يتمسك بالرأي ويعتبره الأصل الذي يجب اعتماده سواء في الحكم على ما جد من شؤون أو في فهم الموروث الإسلامي نفسه.الخطاب القرآنيهل ينسحب ذلك على الخطاب القرآني؟صحيح أن الخطاب القرآني مثَّل قاسماً مشتركاً ونظاماً مرجعياً لكلا التيارين، لكن ما يباين بينهما أنهما تعاملا معه وفق قراءات متغايرة وطبقاً لمنهجيات متباينة، أخلتها المصالح والانتماءات الاجتماعية. وكلها قراءات ومنهجيات مثَّلت ولم تزل هاجساً صعباً في إشكالية الخطاب الإسلامي.كيف يمكن معاينة خطاب الإسلام السياسي كشكل من أشكال الخطاب الديني؟يتعلَّق الأمر هنا بتجنب مقاربة خطاب الإسلام السياسي عبر نظرة تبسيطية، توقفه عند بوابة التفسيرات الجزئية، فيما ينبغي التطلع إلى منظور يتسع لمعطيات المناهج والتطورات المعرفية، في رؤية مركبة ونوعية، تكون أسيرة أي أفق منخفض.ولسنا في ظن أن هذا الخيار في منجى من الاختراق أو التعثر هو الآخر، طالما كان موضوع الإسلام السياسي وتجلياته الفكرية خاضعاً، في المحصلة، لإفرازات الحقل السياسي، ومحكوماً بمنطق الصراع وموازين القوى والمصالح، كالخيارات المستقلة حيناً والمتشابكة أحياناً أخرى.برأيك، ما الصعوبة في تناول الإسلام السياسي؟لعل ما يزيد من صعوبة تناول الإسلام السياسي تعدد فصائله: «الإخوان المسلمون، السلفيون، الوهابيون، السلفية الجهادية، حزب الله... إلخ، وتوزعه بين حركات الإسلام السياسي السني والشيعي، فيما تمثل هذه الأخيرة تجمعات متعددة مثل حزب الله، حزب الدعوة العراق، جمعية الوفاق البحرينية، الحوثيون في اليمن. ويلاحظ ارتباط هذه الفصائل بتمايزات فكرية بينها، من حيث تشابه أو اختلاف مساراتها ونتائجها. وكمثال على ذلك، في ما يتعلق بالهوية السياسية، فإن خطاب السلفيين في مصر رغم تحولات انتابته حول الديمقراطية والتعددية يقدم تصوراً مغايراً في سماته العامة عن الخطاب الإخواني، حيث يبدو السلفيون أقوى التزاماً بمبدأ تطبيق الشريعة وأكثر وضوحاً في الهوية الإسلامية للدولة، وأكثر تشدداً في الموقف من مصطلح الدولة المدنية، وألد خصومة مع التيارات العلمانية.الإسلام السياسيلكن ماذا عن علاقة مفهوم الإسلام السياسي بجماعة «الإخوان»؟يشار هنا إلى أن مصطلح الإسلام السياسي استخدم لتوصيف حركات دينية سياسية تؤمن بالإسلام كنظام سياسي للحكم، ويمكن تعريفه كمجموعة من الأفكار والأهداف السياسية النابعة من الشريعة الإسلامية، والنظر إلى الإسلام لا كديانة فحسب وإنما كنظام سياسي، اجتماعي، قانوني واقتصادي يصلح لبناء مؤسسات الدولة.وتعد دول مثل إيران والسعودية ونظام طالبان السابق في أفغانستان إضافة إلى السودان والصومال أمثلة له، مع ملاحظة أنهم يرفضون مصطلح الإسلام السياسي ويتحدثون بدلاً عنه عن الحكم بالشريعة.وقد جسَّد قيام جماعة «الإخوان» في مصر عام 1928 ما ترسب في الذاكرة الجمعية للتاريخ الإسلامي من مخلفات النموذج القديم للعلاقة بين الدين والسياسة وهو نموذج العلاقة الاندماجية التي تواصل وجودها عبر هذا التاريخ حتى سقوط الخلافة العثمانية عام 1924.ذلك أن السلطة التي وقع تكريسها طوال قرون قامت باسم الدين، ثم سرعان ما تقمصت شكل الملكية الوراثية، المسنودة والمدعومة بالمسوغات والمبررات الديني. وهو ما نظّر إليه الفقهاء بنظام الخلافة، وظل حلم العودة إلى ذلك النظام يرواد الضمير العربي الإسلامي الحديث بين الحين والآخر، فيما لم يكن من السهل محو إرث قرون في أمد زمني قصير لتجيئ جماعة «الإخوان» فتحرث هذا المشهد. كيف تقرأ صعود جماعة «الإخوان» إلى الحكم اتكاء على خطاب ديني مسيس ثم سقوطها؟كان الملمح الظاهر لنشاط الجماعة طوال الفترة منذ نشوئها وحتى اندلاع حرب فلسطين عام 1948 هو نشاط دعوي اتخذ طابعاً اجتماعياً دينياً فيما كان البعد السياسي كامناً في خطابها وحركتها. وخلال سنوات القمع المتواترة، تعلمت الجماعة أن تكون دفاعية وأن تصوب نحو إعداد عسكري للبعض من أعضائها لتستخدمهم إذا لزم الأمر، ورويداً تزايد تسييس خطابها خصوصاً مع ثورة يناير 2011، عبر ادعائها المشاركة فيها، وتم ذلك عبر توظيف «تراث} خبرتها في نزاعاتها مع الدولة ونجاحها في كسب أعداد غفيرة من الجماهير ومهارة قدرتها على استيعاب الصدمات، واستمرار الاحتفاظ بخطابها مع منحه مرونة كافية لتعديل مواقفها وتحركاتها السياسية. وعقب خروجها من الحكم أثر الموجة الثورية في يونيو 2013، استشعرت تخلي الجماهير ومعها الجيش والشرطة عنها، ما أدى بها إلى أن تستعين بفصائل جهادية بزعم استرداد شرعيتها.الهوية والخطابهل ثمة علاقة بين الهوية والخطاب الديني؟نعم، العلاقة بين الهوية والخطاب الديني تثور مع ضعف الشريعة وتخمد مع تحقيق العدل، وثمة عدد من التيارات الفكرية منها المتشدد التي تقصي الآخر، وأخرى ديمقراطية تؤمن بالتعدد والتجدد، والهوية والخطاب الديني يتأثران بعدد من القضايا والتي على رأسها نظام الدولة، وهي خمسة أنظمة: «نظام الدولة الثيوقراطية التي ترى رجل الدين ظل الله في الأرض، والدولة السلطانية وهي لا ترى أن البابا ظل الله في الأرض لكنها لا تملك دستوراً أو تحدد قوانين، والدولة الدينية المقيدة ديمقراطياً، والدولة العلمانية التي لا تعادي الدين مثل حزب العدالة والتنمية في تركيا، والدولة السلطانية التي حاولت أن تأخذ ببعض من مستلزمات الحداثة، وهو ما نجده في فكر جماعة {الإخوان». وعلى إثر ذلك، اتخذ الخطاب الديني موقفاً من الحداثة، فقد خلط بين الحداثة وبين التحديث فترك الفكر إلى المقتنيات التحديثية.ما آليات تجديد الخطاب الديني عملياً بحيث لا يكون محض شعارات في بيانات رسمية؟تجديد الخطاب الديني ضرورة فطرية وبشرية، لأن الخطاب الديني الحالي مفكك وفردي بينما يشهد العالم تجمعات وتطورات هائلة في مجال التقنية والمعلومات والاختراعات. وأعتقد بأن أية نهضة أو تنمية في العالم الإسلامي، التي ينادي بها المخلصون من دعاة الإصلاح، إن لم تصدر من مفهوم ديني فهي محكومة بالفشل. فلا بد من خطاب ديني واع ومعاصر ومنضبط يستطيع أن يضع هذه النهضة ويساعد عليها ويدفعها لإخراج الأمة من هذا التيه والدوران الذي تدور فيه حول نفسها.الاستخدام الرسمي• هل ينحصر تجديد الخطاب الديني في الخطب والمواعظ والدروس أم هو مفهوم أشمل ينسحب على أشكال الدعوة والإرشاد بأسلوب عصري؟ بعض الاستخدام الديني الرسمي لتجديد أو إصلاح الخطاب الديني لا يعدو أن يكون تغيير موضوعات الخطب الدينية الرسمية لوعاظ وأئمة وزارة الأوقاف في صلاة الجمعة أساساً، وهي سياسة مستمرة ومتغيرة في موضوعاتها منذ ستينيات القرن الماضي، وتحددها في مصر مثلاً وزارة الأوقاف، وكبار مشايخ الأزهر الشريف. ورغم ذلك لم يحدث تغير في عمق بنية الخطاب الديني ومرجعياته، ومنطوقه، وتوظيفاته إلا قليلاً لدى بعض الوسطيين أو الأشعريين، أو المعتدلين على قلتهم، حيث إن تجديد الخطاب الديني يعني لدى بعضهم- وهو الشائع إعلامياً- تحديد رأي المؤسسة الدينية الرسمية في بعض المشكلات الراهنة، من قبيل مواجهة الإرهاب، والتطرف الديني، وبعض آراء الإخوان، وفتاوى مشايخ السلفية التي تبدو غريبة من منظور ثنائية الحلال والحرام، كالقول مثلاً بحرمة مشاهدة مباريات كأس العالم أو رفض بعض حقوق المرأة أو الطفل... إلخ. من ناحية أخرى، مساندة الخطاب الديني الرسمي للسلطة الحاكمة في سياساتها الاجتماعية، أو مواجهة ظواهر البلطجة والجريمة والأشكال الأخرى للخروج على القانون في جرائم الوظيفة العامة، أو الاستيلاء على المال العام.. إلخ!• بأية حيثية يراهن مشروع الإسلام السياسي على إمكانية استمراريته؟قبل الإجابة لابد من التنويه بأن المقصود بهذه الاستمرارية، ليس مجرد حضور المشروع، ذلك أن الحضور والاستمرارية اللذين نعنيهما، هما حضور منظومته المفاهيمية وحضور «الطقوس» السياسية المصاحبة لهذه المنظومة في أكثر من مظهر وكذلك حضور «الروح» الكامنة وراء إنتاجه، أي حضور نظام الدولة الإسلامية، دولة الخلافة بأقنعة ومواصفات ومفارقات لا حصر لها، وهي مفارقات لم يتم في مصر مثلا بلورة صورتها النظرية، وتفكيكها بصورة معمقة وجذرية، رغم انتقادات وردود أفعال، ما فتئت تطفو على سطح الواقع رافضة لطبيعة المشروع وطبيعة ممارساته ونوعية علاقاته وأخلاقياته.وتبدو في صدد هذه المواجهة، آلية مازالت غائبة عن المشهد المصري هي عدم تبلور المجتمع المدني الذي يستقل فيه القانون عن الشرع الديني ويتأسس فيه نظام العلاقات بناء على قيم تعاقدية، ويتطور فيه نظام إنتاج وعلاقاته تطوراً يدعو إلى تنظيم عقلاني وتوزيع عادل للثورة وهو ما لم يتحقق بعد، ولا يتعلق الأمر في مشروع الإسلام السياسي إذن بالإسلام أو الشريعة فالمنطلق هو المزايدة أو التدليس، عبر تحويل مجريات المشهد إلى تصورات تمتلك التباسها وتمويهها المراوغ.• ما الحل في رأيك: تجديد الخطاب الإسلامي أم تجاوز مشروع الإسلام السياسي برمته؟يبدو الحل أقرب إلى ضرورة التفكير في تجاوز هذا المشروع، حيث إن من واصلوا الحديث في فكرنا المعاصر بلغة هذا الإسلام السياسي لم يتمكنوا من إدراك أن الدولة الحديثة هي أولا الدولة المدنية، الديمقراطية، التي تقيم سلطتها وتحدد مسؤولياتها بناء على مؤسسات وقوانين تصوغها في إطار المصالح العامة على دولة المواطنين لا دولة الرعايا ودولة القانون لا دولة الوصاية الأبوية.وهي ثانياً دولة تقوم على مبادئ العقل الطبيعي والحق الطبيعي والخبرة البشرية المسنودة بتجارب البشر في التاريخ والمعتمدة على مبادئ العلم والحرية والعدالة والمساواة .وهي ثالثاً دولة المواطنة الممثلة لإرادات جميع المواطنين وتطلعاتهم واختلافاتهم، طبقاً لذلك فإن استهداف تكسير مجال استمرارية حركات الإسلام السياسي لا بد من أن ينطلق من مطلب فك الارتباط معها بالتدقيق في طبيعة المجال السياسي كمجال معرفي مستقل وكإطار للممارسة السياسية قائم بذاته فيما يزداد إلحاح هذا المطلب راهناً وسط صخب المنادين بالإسلام السياسي.