مرة أخرى نعود إلى تلك الرحلة الرائعة التي استغرق القيام بها جل العمر مع تمنياتي ألا يكون القراء الأعزاء قد وصلوا إلى مرحلة الملل، وفي اعتقادي فإن قراءة التجارب الشخصية تعطي القارئ مجالاً للمشاركة في حياة أخرى.

Ad

كما ذكرنا سابقاً، بدأت هذه الرحلة الرائعة في الشهر الثامن من عام 1972 بالانتساب للعمل بوزارة الخارجية، وفي الشهر التاسع من عام 1974 صدر قرار كريم بنقلي للعمل في سفارة دولة الكويت بمدينة جدة بالمملكة العربية السعودية، وذلك قبل نقل السفارات من جدة إلى مدينة الرياض، كانت العلاقات الكويتية السعودية، كعادتها، متميزة وفي قمة أوجها وقوتها، فالزيارات المتبادلة بين البلدين مستمرة وعلى مدار الأسبوع، في تنسيق رائع وتشاور راقٍ ينمان عن فهم عميق لتميز هذه العلاقة، وقد تم إنشاء جهازَي اتصال وتنسيق يعملان على مدار الساعة تحت مسمى "ألفا 1" و"ألفا 2"، وكنت أتولى في بعض الأحيان تنسيق الاتصالات بين الجهازين.

 في عام 1977، وبعد موافقة كريمة من الحكومة السعودية وتتويجاً لهذه العلاقة المتميزة، تم افتتاح أول قنصلية دبلوماسية كويتية في مدينة الرياض تحت اسم "مكتب دولة الكويت التجاري"، وقد كُلِّفت بالإشراف على إنشائه وإدارته، وبناءً عليه، انتقلت من مدينة جدة إلى الرياض، حيث قضيت ما يقارب أربع سنوات سعدت فيها بتكوين دائرة واسعة من الأصدقاء من مختلف المناصب والشخصيات وكبار المسؤولين، مما كان له أثره الطيب في تسهيل مهمة المكتب، فتمت إعادة عمل اللجنة المشتركة المشرفة على إنهاء المنطقة المقسومة بين البلدين، وإنشاء اللجنة الاقتصادية المشتركة والتي كان لها إنجازات في مجال إقامة بعض المشاريع الاقتصادية، مع استمرار اللقاءات، على كل المستويات، وذلك للتشاور وتبادل الرأي في تلك الفترة الحاسمة من تاريخ المنطقة التي شهدت أحداثاً غير عادية، ربما كان لها الأثر الكبير في الأوضاع المأساوية التي نعيشها الآن، منها على سبيل المثال قيام الثورة الإيرانية بقيادة آية الله الخميني، والغزو السوفياتي لأفغانستان، وقيام الرئيس أنور السادات بزيارة إسرائيل، ثم التوقيع على اتفاقيات السلام بين بعض الدول العربية وإسرائيل، أحداث في غاية الأهمية والحساسية كانت تستدعي بالضرورة التشاور وتنسيق المواقف وتبادل الآراء.

في عام 2008 وأثناء رئاستي للبعثة الدبلوماسية في مملكة هولندا الصديقة، صدر مرسوم كريم بتعييني سفيراً محالاً إلى دولة الكويت لدى جمهورية البوسنة والهرسك، وعليه فقد شددت الرحال إلى مدينة سراييفو عاصمة البوسنة، حيث قدمت أوراق اعتمادي إلى فخامة الرئيس حارس سيلادتش، وقد حضر اللقاء أعضاء مجلس الرئاسة ممثلو التكوينات العرقية للجمهورية، وهي الصربية والكرواتية، بالإضافة إلى طائفة البوشناق البوسنيين المسلمين، وتتم رئاسة المجلس بالتناوب بين الرؤساء الثلاثة وعلى فترات زمنية معينة.

تحدث الرئيس سيلادتش وقدم الشكر والتقدير لدولة الكويت وقيادتها السياسية العليا على الدعم الكبير الذي قدمته إلى بلاده، ثم تحدث بمرارة عن فترة الحرب الأهلية التي شهدتها بلاده، وقيام الجيش الصربي بأعمال وحشية مارس فيها سياسة التطهير العرقي، وتم نصب المدافع وقاذفات الصواريخ على قمم الجبال المحيطة بسراييفو، ولعل أقسى تلك الأعمال الوحشية إقامة المعتقلات، وبعضها مخصص للنساء والفتيات لممارسة الاعتداء عليهن واغتصابهن، ومع كل تلك الأعمال الوحشية، فقد تمسك البوسنيون بوطنهم ودينهم عن إيمان ويقين.

في اليوم التالي قمت بجولة في مدينة سراييفو، وكم هالني هذه الأعداد الكبيرة من المقابر التي تقع في الأحياء وبين المنازل وتضم رفات ضحايا تلك الحرب الدامية، وفي وسط تلك المقابر تم نصب الهلال والصليب، لم تسعهما الأرض على ظهرها فجمعتهما في بطنها، يا له من صراع مؤلم بين أتباع نبيين مرسلين من رب العالمين بكتابين مقدسين صادرين من مشكاة واحدة.

حفظ الله الكويت وقيادتها وأهلها من كل سوء ومكروه.