كان اعتقادي عندما تناولت كتاب {يوميات القراءة} لألبرتو مانغويل بأنني سأقرأ موجزاً لبعض الكتب التي أخذت حيزاً من الشهرة وبعض النقد أو التعليق الأدبي عليها. لكن ظنّي باء بالخيبة، إذ وجدتني إزاء كتاب آخر لم يسبق ان تناولت شبيهاً  به.

Ad

في كل كتاب يطالعه مانغويل، يلج بين دفتيه ليصبح إحدى شخصياته. فعبارة واحدة أحياناً قد توحي له بإعداد مقال، وفكرة جديدة في بعض الأحيان تسرح به إلى آفاق بعيدة المدى، ووصف مشهد أو مكان أو منطقة يشدّ به إلى تذكّر أمكنة لا تفارق خياله.

إنها رحلة أدبية وإنسانية تشعّبت إلى رحلات شهريّة، حيث يقرأ كتاباً في كل شهر ويدوّن خلاله ملاحظات وانطباعات عاشها سابقاً ويعيشها راهناً في مغامرة  ممتعة وساحرة.

يونيو عام 2002

ينطلق مانغويل من القرية التي يقطنها في فرنسا ليزور عائلته في بوينس آيرس وفي صدره يكمن بعض الأسى لمغادرته الحديقة ورفوف الكتب.

يفتح وهو في الطائرة كتاباً قرأه منذ خمسة وثلاثين عاماً، وعنوانه {اختراع موريل} لأدولفو بيوي كاساريس، وهو قصة شخص محتجز في جزيرة يعتقد أنها مسكونة بالأشباح.

يقرأ مانغويل الكتاب ويعرّج، في الوقت عينه، على بوينس آيرس التي كانت يوماً مدينته، فيصفها بعد الانهيار الاقتصادي الذي أصابها وفقّر الآلاف من أهلها، ويتذكّر ناس طفولته وزملاء المدرسة المختفين الذين قتلوا  على أيدي العسكر، وبحسب ما ذكرت جريدة {لوموند}، لم يعد ثمة أرجنتين، فيما الأوغاد الذين دمروا البلد لا يزالون أحياء.

شبح الأرجنتين لا يفارق مانغريل وهو يبدي ملاحظاته حول قصة {اختراع موريل}. فهذا البلد كان قوياً جداً ومليئاً بالوعود، ولكن كما كتب لوغونيس يوماً: السياسة! ذاك هو السوط الوطني المسلط. كلّ من يناضل ضد التخلف أو الفقر أو الظلم في هذا البلد إما تقاومه أو تستثمره}.

جزيرة الدكتور مورو

المرة الأولى التي قرأ فيها مانغويل قصة {جزيرة الدكتور مورو} كان في الثانية عشرة من عمره. كان قارئاً بكراً. لم يكن يعرف أي شيء عن الكاتب هـ. ج. ويلز ولا عن موضوع الكتاب، وما أسوأ الرفاق المتحمسين وأساتذة التاريخ والأدب عندما يدمرون الكثير من متعتنا في القراءة حين يفضحون حبكة الرواية.

فزع الصغير وهو يقرأ من الدكتور مورو الغريب. وظن مخطئاً بأن تلك الوحوش المريعة في الجزيرة كانت، في وقت ما، كائنات إنسانية عادية. لقد أخطأ في تخمين مدى بشاعة الاختبارات التي كانت تجرى في دار الألم.  وعندما تم الكشف عنها  في منتصف الكتاب تبيّن أنه كان أكثر سوءاً بكثير مما كان قد تخيّل. ومضى في القراءة فزعاً وممتناً إلى غاية النهاية الرؤيوية، وقد لا تكون مثل هذه القراءة البريئة ممكنة بعد اليوم.

يقرا مانغويل قصة الجزيرة وهو قابع في القطار السريع قاصداً لندن لإلقاء إحدى المحاضرات. ويتذكّر شتيمة سويفت في صحيفته {ستيلا} عندما كتب: {جعل الله لأعدائي أن يعيشوا هنا في الصيف!} وينعطف الكاتب في قراءته أحياناً فيقيم الصِلات بضم مقتطفات لمفكرين ورواة مقارناً بينها بشكل يثير الإعجاب.

مع كبلينغ في شهر أغسطس

يختار مانغويل لشهر أغسطس قصة {كيم} التي نال مؤلفها روديارد كبلينغ جائزة نوبل للآداب عام 1907. والرواية تحكي قصة صبي إيرلندي من مواليد الهند، توفي والداه وبقي وحيداً يجول في شوارع مدينة لاهور، فكان يتحدث مع جميع الناس بِغضّ النظر عن أصلهم أو لونهم أو دينهم، وصار صديق الجميع. في ما بعد تعرّف كيم إلى راهب هندوسي ينشد الانعتاق من خلال البحث عن النهر المقدّس، فرافقه وصار تلميذه.

ابتهج الكاتب بهذا الكتاب، فالصبي كيم يكبر على نحو ودّي مع كل قراءة، ونغمة الحوار ممتعة، وأقل الشخصيات تتمتع بالحيوية، والصداقة المتنقلة بين اللاما الباحث عن جدول والفتى الباحث عن نفسه تتميز بارتباط روحي عميق مما جعل مانغويل يقول خلال قراءته: ما وددت قط أن يكون لحجّ هذين الصديقين نهاية.

الشتاء مع دون كيخوته

ندع مانغويل يقرأ ونقفز إلى يناير من عام 2003 في عز شتاء قاسٍ يلفح هواؤه البارد مسامّ الوجوه حتى الصميم، فنصل إلى {دون كيخوته}  الذي أعاد سرفانتس من خلاله إحياء عالم مغاير سيتمخّض عن نتائج ولو بقيت غير مرئية بالنسبة إليه.

يريد دون كيخونه أن يكون رجلا شريفاً انطلاقاً من نفسه، لا طاعة لقوانين  بشرية أو إلهيّة. ويلخص الدعاء الذي رفعه بودلير يوماً أخلاق دون كيخوته: {هبني رباه القوة والشجاعة أن أنظر إلى قلبي وجسدي من دون احتقار}.

ويسرد مانغويل في هذا الإطار  ملاحظة لامعة لشيلينغ وردت في كتابه {فلسفة الفن} إذ يقول: {الفكرة الرئيسة من دون كيخوته هي كفاح مثال في مواجهة الواقع، وهي تسود كامل الكتاب في أكثر  ما يمكن من التنويعات. في البداية، يبدو كما لو أن الفارس ومثاله مهزومان. لكن هذا ليس سوى الظاهر، لأن ما يظهر متجلياً عبر الرواية هو انتصار هذا المثال}.

أمطار جليدية في الخارج ومانغويل يستمع إلى الموسيقى برفقة كتابه، فيقرأ حول موضوع السخاء: معروف عن القديس مارتان، أسقف مدينة تورز الذي تحمل  كنيسة قريتنا اسمه، أنه قطع جبّته إلى نصفين، فأعطى أحدهما لمستعطٍ متجمّد من البرد. يلاحظ دون كيخوته أن الوقت كان شتاء ولا بد وإلا لكان القديس، البالغ الجود، قد أعطاه الجبة بكاملها. فيجيب سانشو: لا، لم يكن هذا هو الوضع بالتأكيد. لا بد أنه قد طبّق المثل القديم القائل: {كن حكيماً في العطاء، قبل أن تكون جواداً في السخاء}.

مغامرة ساحرة

لن نستطيع أن نفي الكتاب حقه في هذه العجالة، ولا أن نمرّ على شهور السنة بكاملها، ولكن يمكننا القول إن ألبرتو مانغويل يأخذنا عبر كتابه في مغامرة أدبية وإنسانية ساحرة. ومن واجبنا الإشادة بالترجمة الجيدة والأنيقة التي قام بها الأستاذ أديب الخوري.