لم يكن فؤاد المهندس يجيد التخطيط لحياته، ولكنه كان يطيع إحساسه ويثق به كثيراً، لهذا رفض الانضمام إلى فرقة إسماعيل ياسين المسرحية، رغم أنه كان لا يزال في بداياته وبحاجة إلى الانتشار والحضور فنياً عبر نجم كبير. فمنطقيا كان الوقوف على المسرح من خلال فرقة كبيرة تحمل اسم إسماعيل ياسين، حلماً يراود الكثير من الفنانين، خصوصاً من يخطون خطواتهم الأولى، لكن فؤاد المهندس وجد في الموافقة على عرض إسماعيل ياسين قضاء على موهبته الفنية، لكونه سيتحول إلى عضو عادي فيها، بغض النظر عن موهبته أو قدرته على لفت الأنظار، كان لديه يقين أن الجمهور يذهب ليشاهد إسماعيل ياسين فقط.

Ad

كان فؤاد قد لفت نظر ياسين مع الحلقات الأولى لبرنامج {ساعة لقلبك}، أدرك موهبته فراح يبحث عنه ليعرض عليه الانضمام إلى فرقته الأشهر على الإطلاق في تلك الفترة، خصوصاً بعد رحيل الريحاني، وتراجع مكانة فرقة بديع خيري. إلا أن المهندس فضل التركيز مع {ساعة لقبلك} البرنامج الذي كتب من خلاله شهادة ميلاده كفنان بدأ يحصد نجاحا كبيرا كل مرة يطل فيها على جمهوره، ومعه كل أعضاء الفرقة التي أصبح الجمهور يترقب موعد عرضها الأسبوعي بعدما نجح البرنامج في خلق حالة مختلفة عبر أثير موجات الإذاعة، نقلت المسرح للمنازل.

رغم  عشق المهندس للمسرح وسعيه وراء فرصة تمنحه حضورا أكبر، فإن القدر أدار الدفة إلى مجال آخر لم يضعه المهندس في حساباته على الأقل في تلك الفترة، إلا أن منتجي السينما في تلك الفترة كانوا بصدد البحث عن وجوه جديدة بشكل عام، وعلى مستوى الكوميديا بشكل خاص، لا سيما بعد رحيل الريحاني وانفراد إسماعيل ياسين بالساحة، ما دفع المنتجين إلى البحث عن وجوه أخرى تنافس صاحب أبو ضحكة جنان.

وفي أحد الأيام، فوجئ فؤاد بالمخرج محمود ذو الفقار، والذي جمعته به جيرة وصداقة منذ أيام الطفولة، يعرض عليه دور البطولة في الفيلم السينمائي الجديد {غلطة العمر}:

محمود: إيه رأيك يا فؤاد تبقى معايا في فيلمي الجديد؟

فؤاد: ناوي تطلعني إيه بقى، صامت ولا هقول مشهدين وأمشي.

محمود: لا.. هتبقى أنت بطل الفيلم.

فؤاد: أنا؟ إزاي! أنا عمري ما ظهرت في السينما، والناس متعرفش شكلي يعرفوا بس محمود في {ساعة لقلبك}.

محمود مبتسماً: متقلقش ثق فيَّ بس.

فؤاد: طيب يعني حأعمل دور إيه؟ نفس دوري طبعاً في {ساعة لقلبك}؟

محمود ضاحكاً: لا أنت هتعمل دور مختلف تماماً، والفيلم اسمه {غلطة العمر}.

فؤاد مذهولاً: بس دي كده تبقى مغامرة كبيرة.

محمود: الفن أصلاً مغامرة، وعموماً يا سيدي أنا منتج الفيلم، يالا حأبعت لك السيناريو اللي كتبته مع يوسف جوهر، وعاوزين نبدأ بسرعة، وعارف أنك مش هتأخد مني فلوس كثير.

فؤاد: موافق أخد منك فلوس كثير.

قالها فؤاد وهو يضحك، وشاركه محمود الضحك. وبالفعل ماهي إلا أيام حتى بدأ محمود التصوير، مستعينا بالفنانة خيرية أحمد التي حققت مع فؤاد نجاحاً كبيراً عبر {ساعة لقلبك}، ولكن في شخصية مختلفة، بينما أسند البطولة إلى الفنانة الشابة في تلك الفترة زهرة العلا.

خلال تصوير الفيلم، وجد المهندس صعوبة في التعامل مع الكاميرا على عكس  باقي فريق العمل الذين سرعان ما تفهموا توجيهات المخرج، وبدأوا في تنفيذها، بينما جاء أداء فؤاد بالبداية أقل مما توقعه محمود ذو الفقار، خصوصاً أنه شاهد أداءه سابقاً عدة مرات على المسرح، الأمر الذي دفعه إلى الحديث مع المهندس ومعرفة السبب:

محمود: مالك يا فؤاد، أنت بتقف على المسرح أحسن من كده؟

فؤاد: المسرح يا محمود مختلف تماماً.

محمود مقاطعاً: أكيد في اختلاف، بس أنت تمثيلك لازم يكون أحسن من كده.

فؤاد: أنا مش عارف أتعامل مع {حتة الحديدة دي}.

ضحك محمود ذو الفقار بشدة عندما سمع فؤاد يصف الكاميرا بـ {حتة الحديدة}، بينما واصل المهندس حديثه قائلاً: {أنا حاسس أني متقيد بشكل كبير، مش قادر أتعامل مع الكاميرا زي المسرح، هنا حاسس إني لازم أمشي على كلامها، المسرح بأعمل اللي أنا عاوزه، بأتحرك من غير قيود، أكيد الغلط عندي مش عندك}.

حسم محمود النقاش، قائلاً: طبعاً في اختلاف، بس أنت علشان تبقى نجم كبير لازم تعرف تتعامل مع {حتة الحديدة}، والمسرح بنفس الدرجة.

وعد المهندس صديقه بأن يحاول تقديم أداء أفضل أمام الكاميرا، مطالباً بالحصول على يوم إجازة على أن يحضر بعدها مهيئاً، وأمام إلحاحه وافق ذوالفقار رغبة بالطبع في تحسين الأداء.

لجأ فؤاد لحيلة من أجل التدريب على الوقوف أمام الكاميرا بمنزله، فوضع {قلم} على مكتبه، وتخيل أنه الكاميرا التي يجب أن يقف أمامها، وبعد تمرينات عدة تخيل خلالها أن القلم يتحرك معه ويصوره مثل الكاميرا في الأستوديو، وهي الحيلة التي جعلت أداءه أفضل لاحقاً.

بنت الجيران

طرح الفيلم في السينما، لكنه لم يحظ بالنجاح المتوقع، خصوصاً أن أحداثه البعيدة عن الكوميديا ساهمت في عزوف الجمهور عن مشاهدته، فقد كانت الأفلام الكوميدية في تلك الفترة هي الحصان الرابح لشباك التذاكر.

لم يشعر محمود ذو الفقار باليأس، وبدأ في التحضير لفيلمه الجديد {بنت الجيران}، والذي أنتجه عام 1954، ورشح لبطولته أيضاً صديقه فؤاد المهندس، الذي كان متحفظاً على تكرار تجربة التمثيل في السينما، خصوصاً أن تجربته الأولى لم يوفق فيها كما كان يتوقع، لكن تمسك محمود ذو الفقار به جعله يوافق على الفيلم بعد قراءته.

استعان محمود ذو الفقار بمجموعة من الفنانين الصاعدين في تلك الفترة، فأسند البطولة إلى شادية، عمر الجيزاوي، وعمر الحريري، وجسد المهندس شخصية المقاول جميل الذي يعجب بجارته ليلى، لكنها تعجب بصديقه المهندس يسري، وتلقن المقاول جميل المتزوج درساً لا ينساه بالتعاون مع زوجته.

صوَّر الفيلم في أقل من شهر وطرح في الصالات في أبريل 1954، واستقبله الجمهور بشكل أفضل، فحقق إيرادات غطت تكلفته الإنتاجية لكنها ليست المتوقعة، والتي راهن عليها محمود ذو الفقار.

يقول المهندس عن تلك الفترة: رغم أن الفيلم حقق نجاحاً طيباً، فإنني لم أشعر ولو للحظة بالرضا والسعادة، وأنا أقف أمام هذه {الحديدة} أتحدث إليها وأمثل لها.

وأضاف: بعدها أخذت في التنقل ما بين الأفلام تارة مقدماً الأدوار الثانية مع أبطال آخرين، وطوراً أدوار البطولة، ولم أرض مطلقاً عن عملي في السينما، فأنا لم أسعَ إليها على عكس المسرح الذي حلمت كثيراً بالوقوف على خشبته، مقدما أدوار مهمة بعيداً عن التكرار أو أن أكون نسخة من أحد.

في تلك الفترة قدم فؤاد المهندس مجموعة من الأدوار مع محمود ذو الفقار وشقيقه عزالدين في عدة أفلام منها {عيون سهرانة}، {بين الأطلال}، بينما جاء دوره الأكثر تأثيراً في فيلم {نهر الحب} مع عمر الشريف وفاتن حمامة، الذي يعتبر أكثر الأعمال السينمائية التي قدمها فؤاد المهندس نجاحاً، وحققت نجاحاً جماهيرياً، حيث عرض الفيلم بالصالات عام 1960.

حافظ فؤاد على تواجده في السينما بأدوار تفاوتت ما بين البطولة والدور الثاني، بين خفة الظل والتراجيديا الخفيفة ليخلق حالة تميزه عن أقرانه من نجوم الكوميديا الذين ظهروا معه، ما جعله يستمر لنحو سبع سنوات في السينما من دون أن تكون له هوية ككوميديان واضح المعالم، كما استمر في تقديم البرنامج الإذاعي الأشهر {ساعة لقلبك} من دون توقف، ليزداد نجاحه وشهرته يوما تلو الآخر.

أنا وهو وهي

مع انطلاق بث التلفزيون في أوائل الستينيات، تم التفكير في إنشاء  فرق مسرحية من إنتاج التلفزيون المصري، تقدم عروضها للجمهور، وفي الوقت نفسه تعرض على شاشاته، وكان اسم فؤاد المهندس أحد المرشحين بقوه للعمل ضمن هذه الفرق، خصوصاً بعد نجاحه في برنامج {وراء الستار}، الذي شاركت بتقديمه الراحلة سناء جميل، وهو من أوائل البرامج الاجتماعية الفنية التي تحدثت عن كواليس ما يحدث في المسرح، وحقق البرنامج نجاحاً جماهيرياً كبيراً زاد من شهرة المهندس، وساهم في تعريف القطاع الأكبر من الجماهير بوجه المهندس.

ومع تكوين فرق التلفزيون {7 فرق مسرحية}، كل منها أشرف عليها مخرج مختلف، وأسند إحداها للمخرج عبد المنعم مدبولي، والذي سبق وتعرف إليه المهندس حينما اشتركا سوياً في العمل مع {بابا شارو} ضمن برنامجه بالإذاعة.

 حينها أدرك مدبولي موهبة المهندس منذ أول لقاء بينهما، حيث ساعدهما التقارب في العمر ليرتبطا بصداقة دامت لسنوات طويلة، وأثمرت عن تعاون فني مشترك

لا يزال يعيش بوجداننا حتى الآن.

كانت مسرحية {السكرتير الفني}، التي سبق وقدمها الراحل نجيب الريحاني هي أولى العروض التي اختارها مدبولي لتقديمها، ورشح لبطولتها الفنان السيد بدير، وكان أحد أكبر نجوم المسرح في تلك الفترة، والذي بدوره رشح لمدبولي موهبة شابة تشاركه بطولة المسرحية من بين عدة فتيات تقدمن للاختبارات، وكانت شويكار طوب صقال، التي بدأت تمرينات العرض المسرحي أمام السيد بدير، والذي كان يواصلها يومياً إلى أن قرر فجأة الاعتذار عن الدور، فأسقط في يد مدبولي الذي لم يجد أمامه إلا صديقه فؤاد المهندس لينقذ الموقف، خصوصاً بعدما اقترب موعد افتتاح العرض:

مدبولي: أنا عاوزك في حاجة مهمة يا فؤاد.

فؤاد: خير يا عبد المنعم.

مدبولي: أنت عرفت أن السيد بدير اعتذر عن المسرحية.

فؤاد: معقولة، ليه؟

مدبولي: اضطر يسافر تشيكوسلوفاكيا علشان مهرجان سينمائي كبير.

فؤاد: وهتعمل إيه؟

مدبولي: أنا عاوزك تعمل أنت الدور.

فؤاد: بتقول أيه؟

مدبولي: أنا عارف إنك حافظ المسرحية كويس من أيام الأستاذ الريحاني، وفاكر كويس كل اللي كنت بتقوله عليها وعلى كواليسها، وكمان لما كنت بتيجي تزورني كنت بسمعك بتردد الكلام ورا السيد بدير في سرك.

فؤاد مذهولا: أيوة بس..

مدبولي: مفيش بس، الوقت ضيق والعرض خلاص لازم يطلع للجمهور، أعمل حسابك من بكرة هنبدأ بروفات المسرحية معاك.

سلم عبد المنعم مدبولي المسرحية لصديقه، بينما شعر المهندس بأنه حصل على فرصة عمره، ليس فقط لأنه سيقدم أحد روائع أستاذه الريحاني على المسرح، لكن لأن الفرصة هذه المرة بطولة مسرحية حملت في مشاهدها ذكريات عدة، فرغم خوفه من المقارنة بينه وبين أستاذه الريحاني، فإنه قرر خوض التجربة حتى النهاية.

لم يعرف فؤاد أنه لا يكتب شهادة ميلاده كنجم مسرحي كوميدي سيكون له تاريخ طويل متميز في السنوات التالية، وسيضع بصمته التي كانت وستظل مدرسة خاصة في الأداء المسرحي، وهو ما سيتضح لاحقا في العروض التالية. ولكنه كان على موعد آخر مع السعادة، لم يتخيل يوماً أن يضعها ضمن حساباته، ولكن المؤكد أنها غيرت حياته أو بتعبير أدق يمكن القول إنها قلبتها رأسا على عقب.

كان لقاؤه الذي دبره القدر بحب عمره وشريكة حياته التي قلبت كيانه رأسا على عقب.

أم الأولاد

عندما بدأ فؤاد المهندس مشواره مع مسرح التلفزيون كان متزوجاً من السيدة عفت سرور التي أنجب منها طفلين هما أحمد ومحمد. وفي بداية زواجه، كان يعطي وقتاً طويلاً لعائلته ضمن حياته اليومية، وكان يحرص على الاهتمام بزوجته، إلا أنه ومع انشغاله ونجاحه في عمله الفني بدأت المشاكل تعرف طريقها إلى علاقته بزوجته، خصوصاً مع شعورها بالغيرة الشديدة عليه لالتفاف المعجبات به، والإشاعات التي كانت تحاصره، ما أشعرها بحالة من الضيق. ومع الأيام، بدأت الفجوة بينهما تتسع نتيجة انشغاله المتزايد بالفن واهتمامها هي بمنزلها وأولادها وعدم مشاركته اهتماماتها.

 في حوارات عدة للمهندس أكَّد خلالها مراراً أنه كان يكن كل تقدير واحترام لأم أولاده، خصوصاً أنه تزوجها بعد قصة حب، لكن عدم التوافق في الاهتمامات كان سبباً وراء انفصالهما، وهو القرار الذي وصفه فؤاد بالأصعب والذي استمر لعدة أشهر يتردد في اتخاذه، كما وصفه لاحقاً في أحاديثه الصحافية، حتى اتفق معها على الانفصال بهدوء للحفاظ على علاقاتهما الإنسانية على أن يترك لها الأبناء من أجل تربيتهما بينما يقوم بزيارتهم باستمرار.

رغم انفصال فؤاد عن زوجته الأولى، فإنه لم يتخل يوماً عن مسؤولياته تجاه أسرته وأبنائه، فكان حريصاً على متابعة كل تفاصيل حياتهم اليومية، ويراجع خطواتهم الدراسية، ويزورهم يومياً للاطمئنان عليهم ومتابعة شؤونهم، وأية مشاكل يمكن أن تواجههم.

المؤكد أن ظروف الانفصال بينه وبين زوجته لم تؤثر على نشأة ابنيه وتربيته لهما، وهو ما أكدا عليه أحمد ومحمد في الأحاديث القليلة التي أدليا بها سواء في حياة المهندس أو حتى بعد رحيله، وأكدا دوماً حرصه على الاهتمام بهما وبكل شؤونهما، لدرجة لم تشعرهما يوماً أنه غائب عن حياتهما أو بالأحرى مغيب. حتى بعد زواجه من شويكار لم تتغير الحال، وكانا دائمي التردد عليه سواء في منزله أو في المسرح، كذلك علاقتهما بشويكار وابنتها كانت ولا تزال مستمره حتى الآن، ويعاملان ابنتها كأنها شقيقتهما بالضبط.

يقول فؤاد المهندس: {كنت حريصاً على ألا يتأثر أبنائي بانفصالي عن والدتهم، وكنت احترمها، لأنها أهتمت بهم، وتفرغت لهم ولرعايتهم، ولم تجعلني أشعر بأية مشكلة في تربيتهم بل على العكس كنت أحرص على التدخل كي لا يقول الأولاد إن والدهم مشغول عنهم، وزياراتي لهم لم تنقطع}.

(يتبع)