الثورة والثورة المضادة في الزراعة الصيدلانية

نشر في 25-06-2015
آخر تحديث 25-06-2015 | 00:01
إن الزراعة الصيدلانية البيولوجية بوسعها أن تقدم الكثير، ولكن إذا كان لنا أن نجني ثمار ما يمكننا زراعته فنحن في احتياج إلى سياسات معقولة وقائمة على العِلم تطبقها الهيئات التنظيمية في مختلف أنحاء العالم.
 بروجيكت سنديكيت إن استخراج الأدوية من النباتات ليس جديدا، فقد استخلص الباحثون الأسبرين لأول مرة من لحاء شجرة الصفصاف في القرن الثامن عشر، كما تستخلص وتنقى أدوية أخرى عديدة شائعة، بما في ذلك المورفين والكودايين ومكملات الألياف (ميتاميوسيل)، من نباتات العالم.

في وقت أقرب إلى الزمن الحاضر، نجح العلماء في تطوير تقنيات تحمل هذه العملية خطوة أخرى إلى الأمام، باستخدام الهندسة الوراثية لاستحثاث المحاصيل الزراعية لتخليق أدوية عالية القيمة، إذ نشأ الوعد العظيم الذي قدمته هذه التكنولوجيا والمعروف باسم "الزراعة الصيدلانية البيولوجية" قبل نحو خمسة عشر عاما، مع إجراء التجارب السريرية على اللقاحات والأدوية المنتجة باستخدام الموز والطماطم والتبغ، ولكن من المؤسف أن التقدم توقف منذ ذلك الوقت بسبب نفور الهيئات التنظيمية الشديد من المخاطرة.

وكان إنتاج شركة التكنولوجيا الحيوية فينتريا للعلوم البيولوجية لصنف من الأرز يحتوي على اثنين من البروتينات البشرية، اللاكتوفيرين والليسوزيم، من الأمثلة المبكرة للزراعة الصيدلانية البيولوجية، وكانت حبوب الأرز تخضع للمعالجة بمجرد حصادها لاستخراج وتنقية البروتينات لاستخدامها في محلول معالجة الجفاف عن طريق الفم لعلاج الإسهال، والذي تسبقه أمراض الجهاز التنفسي فقط بوصفها المرض المعدي القاتل للأطفال تحت سن الخامسة في البلدان النامية.

يحمل البروتينان البنية والخصائص الوظيفية الموجودة في حليب الأم الطبيعي نفسهما، وتتماثل العملية المستخدمة لاستخراجهما مع تلك المستخدمة بشكل روتيني لإنتاج البروتينات العلاجية من الكائنات الحية مثل البكتريا والخميرة. وقد أظهر بحث أجري في تشيلي أن تقوية محلول تعويض السوائل عن طريق الفم باستخدام البروتينات المستخلصة من الأرز الذي تنتجه شركة فينتريا يقلل إلى حد كبير من مدة الإسهال ويحد من معدل تكرار العدوى، وهو في واقع الأمر تقدم أشبه بالمعجزة بالنسبة إلى شعوب البلدان النامية.

ولكن الهيئات التنظيمية قادرة على إفساد المعجزات، وهي تفعل ذلك بانتظام، فعندما تقدمت شركة فينتريا بطلب إلى وزارة الأغذية والدواء في الولايات المتحدة عام 2010 للحصول على إقرار منها بأن هذين البروتينين "معترف بهما عموماً باعتبارهما آمنين" (وهو المصطلح التنظيمي المعمول به)، لم تتلق أي رد، ومن دون موافقة وزارة الأغذية والدواء الأميركية، لم تتمكن الشركة من تسويق المنتج، ولهذا فقد ظل غير متاح، وهو ما من شأنه أن يحرم الأطفال في البلدان النامية من علاج منقذ للحياة.

وحتى النباتات المزروعة بطريقة الزراعة الصيدلانية البيولوجية والتي خضعت للتجارب الميدانية لم تخل من الإشكاليات، ففي عام 2003، أعلنت وزارة الزراعة في الولايات المتحدة قواعد جديدة مرهِقة لاختبار المحاصيل المهندسة لإنتاج المستحضرات الصيدلانية، وكان الهدف الظاهري للقواعد التنظيمية تجنب تلويث المواد الغذائية بالعقاقير، وخاصة عندما تستخدم المحاصيل الصالحة كغذاء للبشر لإنتاجها، ولكن مخاوف الصناعات الغذائية من تلويث النباتات المزروعة بيولوجيا لمنتجاتها مبالغ فيها إلى حد كبير، وفي كل الأحوال يكمن تخفيف المخاطر بطرق عديدة، وأوضح هذه الطرق استخدام النباتات غير الغذائية مثل التبغ.

في الواقع، حتى لو كانت النباتات المزروعة بيولوجياً من الممكن أن تلوث المحاصيل الغذائية، فإن احتمالات تناول المستهلكين لكميات ضارة من العقاقير الموصوفة كدواء بتناول رقائق الذرة أو المعكرونة أو التوفو ضئيلة للغاية، وإن التدفق الجيني عملية دامت لأجيال وباتت مفهومة بشكل جيد من المزارعين، الذين يزرعون المئات من المحاصيل، وكلها تقريباً خضعت للتحسين الوراثي على نحو ما بالاستعانة بمجموعة متنوعة من الأساليب، ونتيجة لهذا نجح المزارعون في وضع استراتيجيات دقيقة لمنع التلويث المتبادل بحبوب اللقاح في الحقول، عندما تدعو الضرورة إلى هذا لأسباب تجارية.

وحتى إذا أصبحت بعض المحاصيل ملوثة، فإن احتمالات وجود مواد دوائية فعّالة في المنتج الغذائي النهائي بمستويات كافية لإحداث تأثير سلبي على صحة الإنسان سوف تظل ضئيلة للغاية، وإن النباتات المنتجة بطريقة الزراعة الصيدلانية البيولوجية سيتم تجميعها في حصاد كبير، حيث تكون المستحضرات الصيدلانية مخففة بشكل كبير، وسيحتاج العامل النشط بعد الحصاد إلى تحمل عمليات الطحن وغير ذلك من عمليات المعالجة، ثم الطهي، ولابد أيضاً أن يكون نشطاً عندما يتم تناوله بالفم، وهذه ليست حال أغلب العقاقير البروتينية، لأنها تهضم في المعدة.

بطبيعة الحال، لا نستطيع أن نزعم أن احتمال حدوث كل هذا صفر، ولكن في ظل مزيج من العوامل- بما في ذلك الانتقاء الطبيعي، وسعي المزارعين إلى تعزيز مصالحهم الشخصية التجارية، والمخاوف المرتبطة بالمساءلة- يعمل ضد هذا الاحتمال، وتصبح الاحتمالات بعيدة للغاية، ويكاد يكون من المؤكد تماماً أن التأثير بالغ الانخفاض، وعندما نزن هذا في مقابل إمكانية تطوير الشيء الكبير التالي في صناعة الدواء، أو على أقل تقدير ظهور طريقة جديدة لإنتاج مركبات عالية القيمة بتكاليف زهيدة، فسوف نجد أن انشغال الهيئات التنظيمية بمثل هذه الأحداث غير المرجحة في غير محله.

إن الزراعة الصيدلانية البيولوجية بوسعها أن تقدم الكثير، ولكن إذا كان لنا أن نجني ثمار ما يمكننا زراعته فنحن في احتياج إلى سياسات معقولة وقائمة على العِلم تطبقها الهيئات التنظيمية في مختلف أنحاء العالم، ولكن من المحزن، كما قال رجل الاقتصاد الراحل الحاصل على جائزة نوبل، ميلتون فريدمان، إن الأمر أشبه بمن يتمنى لو تنبح هرته.

* هنري ميللر | Henry I. Miller ، طبيب وعالم الأحياء الجزيئية، وزميل الفلسفة العلمية والسياسات العامة في مؤسسة هوفر بجامعة ستانفورد، وكان المدير المؤسِّس لمكتب التكنولوجيا الحيوية لدى وزارة الأغذية والدواء في الولايات المتحدة.

«بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة»

back to top