سأل الملك شهريار شهرزاد: وما حكاية الصياد؟

Ad

روت شهرزاد: بلغني أيها الملك السعيد، أنه كان في قديم الزمان رجل صياد طعن في السن، وله زوجة وثلاثة أولاد، وهو فقير الحال. كان من عادته أنه يرمي شبكته كل يوم أربع مرات لا غير.  خرج يوماً من الأيام في وقت الظهر إلى شاطئ البحر، وطرح شبكته، وصبر إلى أن استقرت في الماء ثم جمع خيوطها فوجدها ثقيلة ولم يقدر على جذبها فربط طرف حبلها بوتد دقه على أرض الشاطئ، ثم تعرَّى وغطس في الماء حول الشبكة، وما زال يعالجها حتى أخرجها، ففرح ولبس ثيابه. أتى إلى الشبكة فوجد فيها حماراً ميتاً. لما رأى ذلك حزن وقال: لا حول ولا وقوة إلا بالله العلي العظيم... إن هذا لرزق عجيب، وأنشد يقول:

يا خائضاً في ظلام الليل والهلكة...

اقصر عناك فليس الرزق بالحركة

ثم خلص الحمار الميت من الشبكة، وعصرها ونشرها، ونزل البحر وقال: باسم الله وطرحها فيه، وصبر عليها حتى استقرت ثم جذبها، فثقلت ورسخت أكثر من الأول، فظنَّ أنه سمك. ربط الشبكة وتعرى ونزل وغطس، ثم عالج الشبكة إلى أن خلصها وأخرجها على البر، فوجد فيها زيراً كبيراً فيه رمل وطين. لما رأى ذاك تأسف وأنشد قول الشاعر:

يا حرقة القلب كفى

إن لم تكفِ فعفى

فلا بحظي أعطي

ولا بصنعة كفـــــــي

خرجت أطلب رزقي

وجدت رزقي توفي

كما جاهل في ظهور

وعالم متخفي

ثم إنه رمى الزير، وعصر شبكته ونظفها، واستغفر الله، وعاد إلى البحر مرة ثالثة ورمى الشبكة. صبر عليها حتى استقرت، ثم جذبها فوجد فيها شقافة وقوارير، فأنشد قول الشاعر:

هو الرزق لا حل لديك ولا ربط

ولا قلم يجدي عليك ولا خط

رفع رأسه إلى السماء وقال: اللهم إنك تعلم أني لا أرمي شبكتي غير أربع مرات، وقد رميت ثلاثاً. سمى باسم الله ورمى الشبكة في البحر، وصبر إلى أن استقرت، وجذبها فلم يطق جذبها، وإذا بها اشتبكت في الأرض، فقال: «لا حول ولا قوة إلا بالله». تعرى وغطس وصار يعالجها إلى أن أخرجها على البر. فتحها فوجد فيها قمقماً من نحاس أصفر، فمه مختوم برصاص طبع عليه خاتم سيدنا سليمان. لما رأه الصياد فرح وقال: هذا أبيعه في سوق النحاس فإنه يساوي عشرة دنانير ذهباً.

حرّكه فوجده ثقيلاً. قال: لا بد من أن أفتحه وأنظر ما فيه وأدخره في الخرج ثم أبيعه في سوق النحاس.

عفريت القمقم

أخرج سكيناً وعالج الرصاص إلى أن فكه من القمقم ووضعه على الأرض وهزه ليخرج ما فيه، فلم ينزل منه شيء، ولكن خرج من ذلك القمقم دخان صعد إلى عنان السماء، ومشى على وجه الأرض، فتعجب غاية العجب. بعد ذلك، تكامل الدخان واجتمع، ثم انتفض فصار عفريتاً، رأسه في السحاب، ورجلاه في التراب، برأس كالقبة، وإيد كالمداري، ورجلين كالصواري، وفم كالمغارة، وأسنان كالحجارة، وأنف كالإبريق، وعينين كالسراجين، أشعث أغبر.

لما رأى الصياد ذلك العفريت ارتعدت فرائصه، وتشبكت أسنانه، وجف ريقه، وأظلم طريقه، فلما رأه العفريت قال: لا إله إلا الله سليمان نبي الله. تابع: يا نبي الله لا تقتلني، فما عدت أخالف لك قولاً ولا أعصى لك أمراً. فقال له الصياد: أيها المارد، أتقول سليمان نبي الله وسليمان مات من ألف وثمانمئة سنة، ونحن في آخر الزمان، فما قصتك وما سبب دخولك في هذا القمقم؟

لما سمع المارد كلام الصياد قال: لا إله إلا الله أبشر يا صياد.

سأل الصياد: بماذا تبشرني؟

أجاب العفريت: بقتلك في هذه الساعة شر القتلات!

قال الصياد: «إنك تستحق على هذه البشارة يا قيم العفاريت زوال الستر عنك يا بعيد، لأي شيء تقتلني؟ وأي شيء يوجب قتلي وقد خلصتك من القمقم ونجيتك من قرار البحر وأخرجتك على البر!

سأل العفريت: قل أية موتة تموتها؟

أجاب الصياد: ما ذنبي حتى يكون هذا جزائي منك؟!

فقال العفريت: اسمع حكايتي يا صياد.

قال الصياد: قل وأوجز في الكلام فإن روحي وصلت إلى قدمي!

روى العفريت: «اعلم أني من الجن المارقين، وقد عصيت سليمان بن داود، وأنا صخر الجني فأرسل لي وزيره أصف بن برخيا فأتى بي مكرهاً، وقادني إليه وأنا ذليل رغم أنفي، وأوقفني بين يديه. لما رآني سليمان استاء مني، وعرض عليّ الإيمان والدخول تحت طاعته. عندما أبيت طلب هذا القمقم وحبسني فيه، وختم عليّ بالرصاص، وطبعه بالاسم الأعظم، وأمر الجن فحملوني وألقوني في وسط البحر، فأقمت فيه مئة عام، وكنت أقول لنفسي: كل من خلصني أغنيته إلى الأبد. مرت المئة عام ولم يخلصني أحد. دخلت على مئة أخرى، فقلت: كل من خلصني فتحت له كنوز الأرض، فلم يخلصني أحد. ولما مرت عليّ أربعمئة أخرى قلت: كل من خلصني أقضيه ثلاث حاجات، فلم يخلصني أحد. غضبت غضباً شديداً وقلت: كل من خلصني في هذه الساعة قتلته بالوسيلة التي يختارها. وها أنت خلصتني الساعة، فكيف تريد أن تموت؟

لما سمع الصياد كلام العفريت قال: يا للعجب! أما جئت أخلصك إلا في هذه الأيام؟ اعفِ عن قتلي يعف الله عنك، ولا تهلكني حتى لا يسلط الله عليك من يهلك.

فقال المارد: «لا بد من قتلك، فقل لي أية موتة تريد أن تموتها».

لما تحقق الصياد ذلك من العفريت، راجعه وقال: اعفِ عني لأنني اعتقتك!

فقال العفريت: إنما أقتلك لأنك خلصتني!

فرد الصياد: «يا شيخ العفاريت، هل أصنع معك مليحاً فتقابلني بالقبيح؟

لما سمع العفريت كلامه، قال له: لا تطمع في النجاة فلا بد من موتك.

فقال الصياد لنفسه: هذا جني وأنا أنسي، وقد أعطاني الله عقلاً كاملاً، فلأدبر أمراً فيه هلاكه، بحيلتي وعقلي. ثم سأل العفريت: هل صممت على قتلي؟

أجاب العفريت: نعم. فقال الصياد: «بالاسم الأعظم الذي على خاتم سليمان أسألك عن شيء فأصدقني فيه». لما سمع العفريت ذلك الاسم الأعظم، اضطرب واهتز وقال له: أسأل وأوجز.

 سأل الصياد: «كيف كنت في هذا القمقم؟ إنه لا يسع يدك ولا رجلك فكيف يسعك كلك؟

قال له العفريت: هل أنت لا تصدق أنني كنت فيه؟ قال الصياد: لا أصدقك أبداً حتى أنظرك فيه بعيني!

وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتت عن الكلام المباح.

وزير الملك يونان

لما كانت الليلة الرابعة قالت شهرزاد: انتفض العفريت وصار دخاناً صاعداً إلى الجو، ثم اجتمع ودخل في القمقم قليلاً قليلاً حتى صار كله داخل القمقم. أسرع الصياد وأخذ السدادة المختومة وسد بها فم القمقم، ثم نادى العفريت وقال له: «تمن عليّ أية موتة تموتها، أأرميك في هذا البحر وابني لي هنا بيتاً وكل من أتى هنا أمنعها أن يصطاد وأقول له: هنا عفريت يقتل كل من أخرجه بعد أن يبين له أنواع الموت ويخيره بينها؟!

لما سمع العفريت كلام الصياد، أراد الخروج فلم يقدر، ورأى نفسه محبوساً عليه خاتم سليمان، وعلم أن الصياد سجنه في سجن أحقر العفاريت وأقذرها وأصغرها. ثم ذهب الصياد بالقمقم إلى جهة البحر، فقال له العفريت: لا لا. رد الصياد: «لا بد... لا بد!». فلطف المارد كلامه وسأله: «ماذا تريد أن تصنع بي يا صياد؟». أجب: «ألقيك في البحر... إنك أقمت فيه ألفاً وثمانمئة عام فأنا أجعلك تمكث فيه إلى أن تقوم الساعة. أما قلت لك أبقني يبقيك الله ولا تقتلني يحفظك الله فأبيت قولي وما أردت إلا غدري؟ لقد ألقاك الله في يدي لأهلكك.

قال العفريت: افتح لي حتى أُحسن إليك. ردَّ الصياد: تكذب يا ملعون، أنا مثلي ومثلك مثل وزير الملك يونان والحكيم رويان. قال العفريت: وما قصة وزير الملك يونان والحكيم رويان؟

تابعت شهرزاد: روى الصياد: اعلم أيها العفريت أنه كان في قديم الزمان، وسالف العصر والأوان، ملك في بلاد الفرس وأرض رومان، يقال له الملك يونان. كان ذا مال وجنود وبأس، وأعوان من سائر الأجناس. ولكن جسده فيه «برص» أعجز علاجه الأطباء والحكماء، ولم ينفعه منهم شرب أدوية ولا سفوف ولا دهان، وكان قد دخل المدينة حكيم كبير طاعن في السن، يقال له الحكيم رويان.

كان الحكيم رويان عارفاً بالكتب اليونانية والفارسية والرومية والعربية والسريانية والطب والنجوم، وقف على أصول حكمتها وقواعد منفعتها ومضرتها، كما عرف خواص النباتات والحشائش والأعشاب المضرة والنافعة، وعرف علم الفلاسفة وجميع العلوم الطبية وغيرها. لما دخل المدينة وأقام فيها أياماً، سمع خبر الملك وما جرى له في بدنه من البرص الذي ابتلاه الله به وعجز عن مداواته الأطباء وأهل العلم. بات ليلة مشغولاً بذلك، ولما أصبح الصباح، بنوره ولاح، وسلمت الشمس على زين الملاح، لبس أفخر ثيابه ودخل على الملك يونان، وقبل الأرض ودعا له بدوام العز والنعم، وأحسن ما به تكلم، وأعلمه بنفسه، فقال: أيها الملك بلغني ما اعتراك من هذا الذي في جسدك وأن كثيراً من الأطباء لم يعرفوا الحيلة في زواله، وها أنا ذا أداويك أيها الملك ولا أسقيك دواء ولا أدهنك بدهان! عندما سمع الملك يونان كلامه، تعجَّب وقال له: كيف تفعل؟ فوالله إن أبريتني لا غنينك وذريتك، وأنعم عليك، وكل ما تتمناه يكون لك، وتكون نديمي وحبيبي!

ثم خلع عليه الملك وأحسن إليه، وقال له: أتشفيني من هذا المرض بلا دواء ولا دهان؟ قال: نعم بلا مشقة في جسدك. تعجب الملك غاية العجب ثم قال له: أيها الحكيم... هذا الذي ذكرته لي يكون في أي الأوقات، وفي أي الأيام؟ أسرع به يا والدي... قال له: سمعاً وطاعة.

شفاء الملك

أكملت شهرزاد: تابع الصياد يروي الحكاية: خرج الحكيم من عند الملك، واكترى له بيتاً وضع فيه كتبه وأدويته وعقاقيره، ثم استخرج الأدوية والعقاقير وجعل منها صولجاناً، وجوّفه وعمل له قصبة، وصنع له كرة بمعرفته. لما صنع ذلك كله توجه إلى الملك في اليوم الثاني ودخل عليه، وقبَّل الأرض بين يديه، وطلب إليه أن يركب إلى الميدان، وأن يلعب بالكرة والصولجان. كان معه الأمراء والحجاب والوزراء وأرباب الدولة، فاصطبحهم إلى الميدان، وهناك ناوله الحكيم رويان ذلك الصولجان، وقال له: اقبض عليه وامش في الميدان واضرب به الكرة بقوتك حتى يعرق كفك وجسدك فينفذ الدواء من كفك ويسري سائر جسدك، فإذا عرقت وأثر الدواء فيك فارجع إلى قصرك وادخل بعد ذلك الحمام واغتسل ونم، فقد برئت والسلام!

أخذ الملك يونان ذلك الصولجان من الحكيم، وأمسكه بيده وركب الجواد، ورميت الكرة بين يديه، وجرى خلفها حتى لحقها وضربها بقوة وهو قابض بكفه على قبضة الصولجان، وما زال يضرب له الكرة حتى عرق كفه وسائر بدنه وسرى له الدواء من القبضة. عرف الحكيم رويان أن الدواء سرى في جسد الملك، فأشار عليه بالرجوع إلى قصره، وأن يدخل الحمام من ساعته. رجع الملك يونان من وقته وأمر أن يخلو له الحمام، واغتسل غسلاً جيداً، ولبس ثيابه داخل الحمام، ثم خرج منه وركب إلى قصره ونام فيه. لما أصبح الصباح نظر إلى جسده فلم يجد شيئاً من البرص، وصار جسده نقياً مثل الفضة البيضاء، ففرح بذلك غاية الفرح، واتسع صدره وانشرح.

أما ما كان من أمر الحكيم رويان، فإنه رجع إلى داره وبات بها. عندما أقبل الصباح طلع إلى الملك واستأذن عليه، فأذن له في الدخول. دخل وقبل الأرض بين يديه، فنهض الملك قائماً على قدميه وعانقه وأجلسه بجانبه، وخلع عليه الخلع السنية، ومدت موائد الطعام فأكل كلاهما، وما زال عنده ينادمه طول نهاره. لما أقبل الليل أعطى الملك للحكيم ألف دينار غير الخلع والهدايا، وأركبه جواده، فانصرف إلى داره والملك يونان يتعجب من صنعه ويقول: هذا داوني من ظاهر جسدي ولم يدهني بدهان، فوالله ما هذه إلا حكمة بالغة، فيجب على هذا الرجل الإنعام والإكرام، وأن أتخذه جليساً وأنيساً مدى الزمان، وبات الملك يونان مسروراً فرحاً بصحة جسمه وخلاصه من مرضه.

لما أصبح الملك وجلس على كرسيه، ووقف أرباب دولته بين يديه، وجلس الأمراء والوزراء على يمينه ويساره، طلب الحكيم رويان، فدخل عليه وقبل الأرض بين يديه، فقام له الملك وأجلسه بجانبه، وأكل معه، وخلع عليه وأعطاه، ولم يزل يتحدث معه إلى أن أقبل الليل، فأمر له بخمس خلع وألف دينار، ثم انصرف الحكيم إلى داره وهو شاكر للملك. عندما أصبح الصباح خرج الملك إلى الديوان وقد أحدقت به الأمراء والوزراء والحجاب، وكان له وزير بشع المنظر، نحس الطالع، لئيم بخيل مجبول على الحسد والمقت. لما رأى ذلك الوزير أن الملك قرب الحكيم رويان وأعطاه هذا الإنعام، حسده عليه، وأضمر له الشر، كما قيل في المعنى: «ما خلا جسد من الحسد و{الظلم كمين في النفس، القوة تظهره والعجز يُخفيه».

تقدم الوزير إلى الملك يونان وقبل الأرض بين يديه وقال له: يا ملك العصر والأوان أنت الذي شمل الناس إحسانك، ولك عندي نصيحة عظيمة، إن أخفيتها عليك كنت خائناً، وإن أمرتني بأن أبديها أبديتها لك. سأل الملك وقد أزعجه كلامه: ما نصيحتك؟ أجاب: أيها الملك الجليل، قد قال القدماء: من لم ينظر في العواقب، فما الدهر له بصاحب، وقد رأيت الملك على غير صواب حيث أنعم على عدوّه، وعلى من يطلب زوال ملكه، وقد أحسن إليه وأكرمه غاية الإكرام، وقربه غاية القرب. وأنا أخشى على الملك من ذلك.

انزعج الملك وتغيَّر لونه وقال له: من الذي تزعم أنه عدوي وأحسن إليه؟ أجاب: أيها الملك إن كنت نائماً فاستيقظ، فأنا أشير إلى الحكيم رويان. قال له الملك: إن هذا صديقي، وهو أعز الناس عندي لأنه داوني بشيء قبضته بيدي وشفاني من مرضي الذي عجزت عنه الأطباء، وهو لا يوجد مثله في هذا الزمان، فكيف تقول هذا المقال، وأنا من هذا اليوم أرتب له  الجوامك والجرايات، وأعمل له في كل شهر ألف دينار؟ ولو قاسمته في ملكي لكان قليلاً عليه، وما أظن أنك تقول ذلك إلا حسداً كما بلغني عن الملك السندباد.

وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتت عن الكلام المباح.

إلى حلقة الغد