الإعلام والإرهاب والتحدي الصعب
إن تحويل التغطية الإعلامية، في ظل بيئة اتصال مفتوحة، إلى عملية شحن معنوي أو تعبئة، بغرض دعم القدرة الوطنية على المواجهة والصمود، يمكن أن يفضي إلى تحويل الإعلام إلى نوع من أنواع الدعاية، وقد يفقد الدولة بكاملها القدرة على الاعتماد على المنظومة الإعلامية الوطنية.
من أصعب المواقف التي يواجهها الإعلام والإعلاميون في أي بلد محاولة تقديم تغطية إعلامية مهنية في ظل حالة حرب أو أحداث إرهابية كبرى تستهدف الوطن بمواطنيه وحكومته ومؤسساته.يصبح الإعلامي الذي يريد أن يتوخى المعايير المهنية، عند قيامه بعمله في مثل تلك الأثناء، مثل من يسير في حقل ألغام، خصوصاً أن السلطات تكون متوترة، والجمهور أعصابه مشدودة، والاتهامات تصبح جاهزة لكل من لا يثبت ولاؤه ودفاعه عن الوطن في مواجهة هذا العدوان الذي يستهدفه.ومن ناحية أخرى، فإن تحويل التغطية الإعلامية، في ظل بيئة اتصال مفتوحة، إلى عملية شحن معنوي أو تعبئة، بغرض دعم القدرة الوطنية على المواجهة والصمود، يمكن أن يفضي إلى تحويل الإعلام إلى نوع من أنواع الدعاية، وقد يفقد الدولة بكاملها القدرة على الاعتماد على المنظومة الإعلامية الوطنية.لقد تعرضت مصر لسلسلة من العمليات الإرهابية الخسيسة على مدى الأسبوع الماضي، وهي العمليات التي تضمنت اغتيال النائب العام المستشار هشام بركات، والهجوم الشرس على الجيش في سيناء، والذي أوقع عشرات الشهداء والجرحى، فضلاً عن عدد من التفجيرات في أماكن أخرى متفرقة من البلاد.إن تلك العمليات الإرهابية الدنيئة لا يمكن أن تنال من عزيمة الجيش المصري، ولا يمكن أن تسلب المصريين إرادتهم، أو تزعزع يقينهم في دولتهم ومؤسساتها، أو تحبط استعدادهم الدائم للدفاع عن أرضهم وهويتهم الوطنية والإنسانية والحضارية.ليست تلك العمليات الإرهابية، وما تؤدي إليه من تضحيات كبيرة ومؤلمة، سوى الثمن الذي تدفعه مصر في طريقها للتخلص من الفاشية الدينية، والإرهاب المتدثر بالدين، والكيد والتدبير الشرير اللذين تنسجهما قوى إقليمية ودولية، ترغب في تقويض أركان الدولة، ونشر الخراب والفوضى فيها.لقد زادت تلك العمليات الإرهابية المصريين تصميماً على دحر الإرهاب والانتصار للحياة وحماية الوطن والمواطنين وصيانة المؤسسات، كما وحدت القطاعات الغالبة فيهم خلف القيادة السياسية، وأكدت قدرتهم على تحدي الصعاب ومغالبة المحن كما تعودوا عبر التاريخ.وبسبب الشماتة والعداء اللذين ظهرا في معالجات سياسية وإعلامية عديدة صادرة عن بعض الجماعات والدول والمنظمات ووسائل الإعلام، ونتيجة لعوار مهني ومؤسسي خطير في البنية الإعلامية المصرية، وقعت أخطاء كبيرة في تغطية الإعلام المصري لتلك الأحداث الإرهابية وتداعياتها المؤسفة. وبصرف النظر عن محاولة تشخيص تلك الأخطاء، التي بات قطاع مؤثر من الجمهور والمختصين يدركها، ثمة مجموعة من الاعتبارات التي تجدر الإشارة إليها والتذكير بها، كخطوة أولى ضرورية، لتجاوز مثل تلك الأخطاء، وصولاً إلى درجة من الأداء أفضل وأكثر وفاء بالمهمة.أولاً: ترتبك المؤسسات الإعلامية في أعرق الديمقراطيات وأكبر الدول عند مواجهة عمليات إرهاب واسعة النطاق، أو عند انخراط الجيش الوطني في معارك مع عدو خارجي أو داخلي، وهو أمر تترتب عليه أخطاء معلوماتية، ودرجة من التعتيم أحياناً، وصعوبة في ملاحقة الأحداث، لكن المجتمعات الأكثر تنظيماً تضع قوانين ومواثيق شرف وقواعد وإرشادات تحريرية، لمساعدة الجسم الإعلامي في التصدي لتلك المهمة الخطيرة بأقل قدر ممكن من الأخطاء. وللأسف الشديد فمصر لم تنجح في تحقيق ذلك حتى الآن.ثانياً: يظل الهدف الأهم لأي منظومة إعلامية وطنية تتصدى للتغطية أثناء الأحداث الخطيرة والحروب والنزاعات والعمليات الإرهابية، أن تظل "مصدر الاعتماد الأول والأكثر موثوقية لدى الجمهور المحلي"؛ بمعنى أن يعتقد هذا الجمهور في صدق ما تبثه وسائل إعلامه الوطنية بخصوص الأزمة، ومن ثم لا يلجأ إلى مصادر أخرى أجنبية، قد تكون جزءاً من الحرب النفسية ضد بلاده. إن إخفاق المنظومة الإعلامية الوطنية في تحقيق هذا الهدف يحدث عادة بسبب خلطها الرأي بالخبر، أو عدم تحليها بالدقة، أو فرضها حالة من التعتيم، أو افتقادها القدرة الفنية اللازمة للوفاء بدورها.ثالثاً: إن نجاح منظومة الإعلام الوطني في التصدي لتغطية ناجعة لمثل تلك الأزمات الكبرى لا يمكن أن يتحقق من دون دعم كامل من السلطات السياسية والجهاز الإداري والمؤسسات المعنية، وأبسط صور هذا الدعم تتجلى في ضرورة تقديم المعلومات اللازمة في الوقت المناسب من دون تشويه أو تعتيم؛ لأن الإخفاق في تقديم تلك المعلومات يفتح الباب غالباً أمام "العدو" الذي ينفرد بعقل الجمهور ووعيه وإدراكه، وأحياناً وجدانه.رابعاً: يخوض الإعلاميون الذين يتصدون لتغطية مثل تلك الأزمات اختباراً صعباً؛ إذ يشعرون أن تخليهم عن "دعم الوطن" و"مهاجمة المجرمين والإرهابيين والأعداء" عبر المواد الإخبارية التي يبثونها قد يكون "نكوصاً" عن مساندة الوطن، وإظهاراً لحس بارد وغير وطني. إن مهنة الصحافة والإعلام تجنبنا مثل تلك المشاكل إذا تحقق الإخلاص لمعاييرها الفنية والأخلاقية؛ فلدينا كإعلاميين وصحافيين الفرص الكاملة في مواد الرأي للتعبير عن مواقفنا وبث آرائنا وتقديم انطباعاتنا للجمهور، أما الأخبار فيجب أن تبقى بمنأى عن أي تلوين أو خلط، لأن هذا التلوين، حتى لو كانت النوايا الوطنية الحسنة تدعمه، سيكون السبب الرئيس لانصراف الجمهور عنا، ولجوئه إلى منصات "غير وطنية" للتزود بالمعلومات والحقائق، وقد تكون تلك المنصات تابعة لـ"العدو" نفسه.خامساً: لدينا تجربة إعلامية مريرة حدثت بموازاة هزيمة 1967، وهي تجربة لن تتكرر بمشيئة الله، لكن علينا أن نستخلص منها العبر والدروس اللازمة، وعلى رأسها أن الحقائق يمكن أن تُخفى أو تُشوه أو تُجمل لبعض الوقت، لكن سرعان ما يتم كشف تفاصيلها في وقت ليس بعيداً، وعندها يكون الثمن أفدح من نتائج كشفها بدقة في وقت حدوثها.سادساً: لقد تغيرت بيئة الاتصال على مستوى العالم أجمع، وقد أثمر هذا التغير عاملاً في غاية الأهمية مفاده أن الجميع بات يملك منصات إعلامية، وأن الجميع أصبح قادراً على الوصول إليها، وهو أمر لا يجعل الدولة قادرة على التحكم المركزي في الرسائل الإعلامية كما كان في عقود سابقة.* كاتب مصري