حين تقبض قوةٌ عسكريةٌ، أو عقائديةٌ عمياء، أو ثوريةٌ حالمة بتغيير العالم في وثبة واحدة، على السلطة، تنصرف فطنتُها، وهي توزع قياداتِها على المناصب الحساسة، إلى وزارة الداخلية بصورة خاصة، وإدارات أمنها واستخباراتها، وما يمكن أن تستحدثه من جديد فيها. وسيكون معيار نجاح صمام أمانها هذا كامناً في غموضه، وفي مقدار ما يثيره من ذعر لدى المواطن كفرد، ولدى الجموع كشعب. واختيار أفراد ملائمين لإدارة هذه المراكز يتطلب معرفة سايكولوجية، متوفرة لدى سياسيي الأحزاب العقائدية، المدربة على المراقبة والحذر والارتياب وسوء الظن، بصورة طبيعية، أكثر مما تتطلب معرفة سياسية وإدارية. وعادة ما تقع عيونُ المسؤولين، أو عينُ المسؤول المتفرّد، على أفراد بعينهم، يتمتعون بطبيعةٍ أعدَّ صياغتها الشيطان، مُذ وجد. طبيعةٌ تريد لإثارتِها واستثارتِها أن تكونَ دمويةً، خرساءَ الصرخة، غامضةً. وغموضُها يشفّ، إذا ما شفّ، عن أشباح. كلٌّ منا رأى هذه الطبيعة، مذْ كنا صبياناً، مشخَّصة في أحدٍ نعرفه، ولا نقربه. أحدٌ ميّال إلى التجريح والتعذيب، للحيوان بين يديه، أو الصديق المُقرّب.

Ad

 هؤلاء عادة ما يكونون قلّةً، صفوةً نادرةً أحياناً، عزيزةً على قلب القيادة المتطّلعة للسلطة بأي ثمن. ولا تجدُ أمانَها إلا داخلَ هذه السلطة، وكذلك مرتع ملذّاتها الدموية، وأفق مخيلتها الذي يتزاحمُ فيه الضحايا. ولقد تعرفنا تفصيلاً على عيّناتٍ تاريخية من هؤلاء، في الكثير الكثير من سلطات الحزب المتفرّد، أو القائد المتفرّد، في العالم، وفي عالمنا العربي.

 ولكن هذه الطبيعة في الفرد، إذا لم يتحققْ لها أملُ الانتساب إلى حزب عقائدي، حاثِّ الخطى، وهي خطىً دموية بالضرورة، إلى السلطة، مرتع أنيابها ومخالبها، فستظل هائمةً على وجهها، ترتكبُ شتاتَ جرائمها في الوحدة، دون إشباع ورضى. لا تتوقف عن البحث أملاً في ملاذ يتمتع بروح العصبة، ووحدة الهدف الحالم، الذي يحتقر أيَّ تماس مع الواقع، أو الحياة.

  وليس غريباً أن تتمتع رؤى الشعراء في هذا البحران الغامض الدامي. وليس اعتباطاً اقتراح شياطين للشعر والشعراء، لا آلهة أو ملائكة. لأن في هذا الغموض الدامي، والالتباس المُضبّب تنعكس الأعماق الغامضة والملتبسة للنفس الانسانية. والشاعر يطمع في القبض على ذلك، وتصويره. إن «جحيمَ» دانتي الشعري في «الكوميديا الإلهية» أكثرُ تأثيراً من «مطْهره» و»فردوسِه». ولقد صحب الشاعر مِلتون الشيطانَ بشغف في «الفردوس المفقود» أكثر من صحبته الله، وشكسبير عرف تألقه في تراجيدياته، التي يتربّص في جميعها الشر والجريمة. ولكن عظمة رؤى الشعر أنها محض رؤى، توسّعُ من أفق الكائن والحياة، كما تفعل الخبرة. وعبارةُ الشاعر أوكتافيو باث دالةٌ حين يكتب: « لا يمكن أن يوجد مجتمع دون شعر، لكن المجتمع لا يمكن أن يتحقق على هيئة شعر».

 قد يفلت من هذه الحكمةِ راءٍ مثل الفرنسي ميشيل فوكو، الذي قادته الرغبةُ في تطبيق رؤاه الشعرية على الحياة، فلم يترك حركة بالغة العنف، ثورية/ إرهابية، إلا انتسب إليها، أو وقف معها. والدافع سايكولوجي بالتأكيد. بعض الشعراء والكتاب العرب طمع في هذا، وحاوله على الورق. ولا يتمتع بشجاعة كافية للممارسة. ولكن قصيدتَه أو نصَّه لم يتوقفا عن تأليب الشباب الضحية لارتياد مناطق أحلام الثورة السحرية، المميتة.

 شبان «داعش» وكل الأحزاب العقائدية المتطرفة، دينيةٌ بصورة أساسية هذه الأيام، يتمتعون برؤى المشدود، بحكم الطبيعة، إلى الجريمة. لقد وجدوا ملاذهم لممارسة ما يرونه حقاً. العقيدةُ، في النهاية، والفكرةُ الكبرى، والهدفُ ليست إلا ذريعةً، وخادمةً سهلة للدوافع الدفينة. ويسيرٌ على أحدهم أن ينتقل من حزب إلى حزب مخالف، بشرط أن يتمتع بطبيعة التطرف ذاتها.

  أما حكاية المُغرر بهم، من المبرّئين من هذه الطبيعة، فسيجفلون ما إن يقتحموا الأتون. وعودةُ أحدِهم إلى نفسه محكومةٌ بتيسر السبل وحدها. ما من طبيعة، لا تملك مخالبَ وأنياباً دموية، بقادرة على رؤية شاة تُذبح. فكيف برقبة إنسان.

  ما حدث في باريس ليلة السبت المُريعة هو حلقة من حلقات نشاط هذه المخالب وهذه الأنياب، التي لم تتوقف عبر التاريخ، وبتنويعات عدة.