كانت الإنسانية في حيرة إزاء معنى السعادة في العصر الألفي، ولكن هذا السؤال أصبح يطرح الآن من قبل الاقتصاديين، وفي العقود الأخيرة أصبح الباحثون أكثر اهتماماً في مسألة السعادة على شكل بديل محتمل للناتج المحلي الاجمالي كمقياس للرفاهة الوطنية.

Ad

الناتج المحلي الاجمالي، بصورة عامة، مقياس معقول جيد بالنسبة الى مستويات المعيشة، ومعظم الناس الذين يعيشون في بلدان ذات انتاج محلي اجمالي عالي سوف يملكون سيارات وأجهزة تلفاز والكثير من الطعام، بينما العديد من اولئك الذين يعيشون في دول ذات مستويات متدنية من الناتج المحلي الاجمالي سيملكون قدراً قليلاً من تلك الأشياء، وربما لا يملكون أياً منها، ولكن الناتج المحلي الاجمالي ليس معياراً مثالياً فهو يهمل قيمة وقت الفراغ والراحة أو الوقت الذي يمضيه المرء مع عائلته وأصدقائه. وهو لا يقيس وضعنا الصحي من الوجهتين البدنية والعاطفية. ثم إن الطلاق الموسوم بالحقد لن يحذف من الناتج المحلي الاجمالي والتجربة الدينية لن تضيف اليه.

ولهذا السبب استعرض العديد من الناس فكرة قياس مستويات المعيشة عبر "السعادة الوطنية الاجمالية " التي انتشرت على نطاق واسع، ودرس عدد من المدن والولايات الأميركية مسألة وضع "مؤشرات سعادة" للسكان.

وفي غضون ذلك، عزز اقتصاديون أكاديميون البحوث ذات الصلة بالسعادة، وتمثل أحد الأمثلة البارزة في دراسة صدرت في عام 2013 عن بتسي ستيفنسون وجوستن والفرز، حيث أظهرت أدلة على أن زيادة الدخل تفضي الى زيادة السعادة – وهو شيء لم يصدقه الاقتصاديون من قبل، وقد أجرى مستشاري مايلز كيمبول بحثا موسعاً حول السعادة ووضع نظرية تتعلق بكيفية ارتباط السعادة بالمفاهيم التقليدية بقدر أكبر مثل درجة حصول الناس على ما يريدون امتلاكه.

التركيز على السعادة

يمثل التركيز على السعادة تحولاً فلسفياً بالنسبة الى الحقل الاقتصادي ولكنه ليس من النوع غير المرحب به بالضرورة، فمقاييس الاقتصاديين التقليدية للرفاهة كانت تعتمد على درجة نيل الناس ما يريدون، واذا كنت أريد شطيرة همبرغر وتمكنت من الحصول عليها فإن درجة الرضا ترتفع لدي، وبحسب الاقتصاديين القياسيين أنا في حال أفضل.

ولكن لنفترض أن شطيرة الهمبرغر لم تمنحني السعادة ولنفترض أنني شعرت بانزعاج بعد تناولها لأنني خرقت حميتي، وحتى اذا كنت اخترت تناول تلك الشطيرة مراراً وتكراراً إذا لم أشعر بسعادة في كل مرة أخضع فيها لاغراء الأكل فهل أنا أفضل حالاً؟ لقد بدأ الاقتصاديون الذين يدرسون السعادة بتبني الفكرة القائلة انه ربما ما يهم هو ليس درجة حصول الناس على ما يريدون بل مدى حبهم لما يحصلون عليه، ثم إن العواطف الجيدة قد تكون أكثر أهمية من اشباع الرغبات.

مشكلة بحوث السعادة

تلك ليست فكرة جنونية، وثمة مشكلة كبيرة تتعلق ببحوث السعادة على أي حال، وليست هناك حقاً طريقة جيدة من اجل قياس مشاعر الناس بشكل واقعي.

وعندما يستخدم الاقتصاديون تعبير "السعادة" فإن ما يقصدونه من ذلك هو "درجة السعادة المعلنة"، وبكلمات اخرى، فإنهم يطرحون على الناس أسئلة حول الخط الذي ينطوي على "مقياس من واحد الى عشرة، ما مدى شعورك بالسعادة"؟ ثم يقومون بتدوين الجواب. وفي بعض الأوقات يطرحون أسئلة ذات مفعول رجعي يتعلق بالسعادة مثل "كم كنت سعيداً خلال الفترة القليلة الماضية؟"، كما أنهم يطرحون في بعض الأحيان أسئلة حول "رضا الحياة"، ولكن المسألة تنتهي في الحقيقة إلى سؤال الناس ببساطة عن شعورهم.

مشكلتان كبيرتان ترتبطان بهذا الجانب، الأولى هي أن الناس المختلفين يجيبون بصورة مختلفة عن تلك الأسئلة المتعلقة بسعادتهم، والناس من إحدى الثقافات قد يشعرون بضغط اجتماعي إذا قالوا إنهم يشعرون بسعادة طوال الوقت، بينما قد يشعر أشخاص من ثقافة مختلفة بالخجل من الاعتراف بسعادتهم الى باحث في دراسة، هذه الاختلافات توجد ليس فقط بين الثقافات بل بين الأفراد أيضاً وفي فترات متفاوتة.

وتتمثل المشكلة الثانية في أن تقييم الناس لعواطفهم قد يكون نسبياً وليس قاطعاً، وقد عرف علماء النفس منذ زمن طويل عن الظاهرة التي تدعى "التكيف المتعي" التي ترتبط بالمتعة وتكون أحداث الحياة فيها، مثل الطلاق والوظيفة الجديدة وربح ورقة يانصيب، سبباً لزيادة أو نقصان بصورة مؤقتة في الافصاح عن السعادة.

ومن الممكن تماماً أن تستمر التغيرات العاطفية الناجمة عن أحداث الحياة هذه ولكن الناس ببساطة ينسون مدى سعادتهم أو العكس قبل تلك الأحداث. والحالة العاطفية التي أعتبرها في الدرجة 7 على مقياس من 1 الى 10 في الوقت الراهن قد تكون أفضل أو أسوأ الى حد كبير من الحالة التي وضعتها في الدرجة 7 قبل عامين. ولكن دراسات السعادة من النوع الذي استخدمه الاقتصاديون سوف تسجل أنني أشعر بسعادة الآن كما كنت من قبل على الرغم من أن عواطفي الحقيقية قد تغيرت.

واذا كان التكيف المتعي هو الذي يوجه معظم أجوبة الناس في الاستطلاعات فسيتعين علينا عندئذ رؤية القليل من الترابط بين السعادة المعلنة والسلوك المدفوع بالعاطفة، وفي حقيقة الأمر فإن ذلك هو ما توصل اليه الحائز على جائزة نوبل في الآونة الأخيرة أنغس ديتون ومشاركته في التأليف آن كيس عندما استعرضا الترابط بين السعادة المعلنة والانتحار: "الانتحار هو التصرف النهائي للتعاسة اليائسة... وفي دراسة حديثة وجدنا بعض العوامل التي ترتبط بالسعادة وبانخفاض معدلات حوادث الانتحار ايضاً، ونقص أي علاقة واضحة بين الانتحار والسعادة ربما يعني أن علينا توخي الحذر ازاء اعطاء الكثير من الثقل والوزن الى رضا الحياة المعلن".

وإذا كانت السعادة المعلنة غير قادرة على التنبؤ حتى بمدى امكانية اقدام الناس على الانتحار فستكون هناك مشاكل كبيرة في طريقة البحث، والعواطف تنطوي على أهمية لا يمكن تصديقها ولكنها معقدة أيضاً ومذهلة ويصعب فهمها، والى أن نعثر على طريقة أفضل لقياسها لا أظن أن الاقتصاديين أو الحكومات يجب أن يتسرعوا من أجل استبدال المقاييس التقليدية للرفاهة بمقاييس اللاستطلاعات المتعلقة بالسعادة.

* Noah Smith