كيف تقتني كتاباً!
لفت انتباهي وأنا أتجول بين أروقة معرض الكتاب المقام مؤخراً، أن معظم مرتاديه يأتون للفرجة والمشاهدة، وليس في ذلك من بأس، وأن نسبة كبيرة من هؤلاء تنتابهم الحيرة والضياع إزاء ما يأخذون ويدعون من المعروض أمامهم من كتب، وكثيراً ما تسمع وأنت تعبر أكشاك البيع تلك العبارة التي يوجهها المشتري للبائع: "عمَّ يتحدث هذا الكتاب؟"، أو "ما قصة هذه الرواية؟"... وكأن الموضوع أو "الحدوتة" هما أساس الكتابة ومنطلقها الأوحد! والمشكلة ليست في سذاجة السؤال فقط، بل في ما تشير إليه من أميّة متأصلة لدى بعض العامة تتعلق بخلفياتهم المعرفية، وببساطة هذه الخلفية وارتباكها حين يختارون ما يقرأون. وسبب آخر لهذا الارتباك يعود إلى الانقياد وراء العنوان وصورة غلافه كمنطلق أوليّ، لا الارتباط بالكاتب أو الألفة مع كتاباته وميراثه عبر رحلته الفكرية أو الإبداعية. إن قارئ الفرجة أو القارئ الموسمي عادة لا يكوّن علاقات وجدانية أو ذوقية مع مؤلفين من لحم ودم وعصب، وإنما يمرّ بهم مرور العابر المتعجل الذي لا تعلق في ذاكرته ولا ثيابه رائحة إنسان أو نكهة حبر، ولعله من الطريف في هذا المقام أن نقترح دورة تدريبية قبيل المعرض تحت مسمى "كيف تقتني كتاباً؟"، بعد أن أضحت الدورات لدينا تخوض في كل ما هبّ ودبّ، وغدت مهنة من لا مهنة له.
وعليه أعتقد أن الحاجة باتت ملحّة، ولاسيما لدى دور النشر الناشئة، أن تعتني بصناعة (المؤلّف/ الإنسان) قبل صناعة (الكتاب/ الورق)، تماماً كما تعكف المؤسسات الفنية على صناعة الفنان وهي بصدد صناعة الأغنية. ومهمة صناعة (المؤلف) تحتاج بلا شك إلى دقة في انتقاء الموهبة الواعدة، وخطة لتبنيها وتطويرها، وإلى أسلوب جاذب في تقديمها وتشجيعها، وترك مساحة لها لتشعّ وتنمو بعيداً عن زحام المتطفلين والمثبطين للعزائم، بحيث تكون لدينا في النهاية (أسماء وأعلام) مؤسِّسة في شتى حقول الإبداع أو المعرفة، وليس فقط أغلفة براقة من ورق. لقد آن الأوان أن يكون لدور النشر فلسفة مؤسساتية ورسالة ثقافية أبعد من هدف التجارة والربح، وأن تتجاوز مفهوم (الكتاب/ السلعة) إلى (الكاتب/ الثروة). إن النشر ومؤسساته – شئنا أم أبينا - يبقى صورة من صور الواقع الثقافي الذي نتمنى أن يوسع آفاقه وأهدافه. حين أستعرض حصاد جولاتي في معرض الكتاب أجدني اخترت أسماءً لا عناوين، وعدت وبمعيتي يمنى عيد وأمير تاج السرّ وعبده خال وربيع جابر وإسماعيل فهد اسماعيل وجورج أورويل وإبراهيم أصلان وأليف شافاق وماركيز... إلخ، ثم أكوّمها جانباً من أجل قراءة متأنية ومسترخية وممزوجة بالمتعة، لتأخذ أماكنها بعد ذلك جنباً إلى جنب مع أمين معلوف وسيمون دي بفوار وعبدالرحمن منيف وعبدالله الغذامي ورضوى عاشور وباولو كويلو وأحمد مشاري العدواني وليلى العثمان، وغيرهم من المحدثين والقدماء والأحياء والراحلين ممن ساهموا في صياغة مكوّننا الثقافي وذائقتنا الفنية. إنه الإنسان الكامن وراء الكتابة أولاً وأخيراً وهو الذي يصنع الفرق. إن الكاتب لا يموت، أما الورق فهو الذي يبلى وتذروه الريح، وإنه لمن المؤلم أن تحتفي دور النشر بالجديد دائماً والجديد أولاً دون أن يواكب ذلك إعادة ترويج وتقديم للسابق (لا القديم) من المؤلفات، فالعمل الجيد لا يقدُم ولا يبلى، ولاتزال هناك أجيال تولد في كل لحظة ولم تسنح لها الفرصة بعد للتعرف على تلك الأعمال. وأنتَ تمر على أجنحة المعرض يؤلمك أن كتب أمين معلوف وحنا مينا وإدوارد سعيد ومحمد الفايز وبدر شاكر السياب وأحمد شوقي والعقاد وطه حسين ومحمد مندور ونجيب محفوظ وغيرهم لم تعد تحتل الطاولات الأمامية، أو تكون في أحسن الأحوال متوارية في الرفوف الخلفية أو متدثرة في غبار طبعات قديمة! لكأننا في كل معرض نعلن القطيعة مع الرموز والأوائل، لمجرد أنه لا جديد لهم أو أنهم رحلوا عن دنيانا. إنها فلسفة "التسليع" مرة أخرى، وفلسفة صناعة القارئ، تلك التي لا تفرق بين المنتج الاستهلاكي والمنتج الإنساني/ الثقافي، وليتنا نستهدي بالغرب في هذا المجال، حيث لا تزال مؤلفات شكسبير ودانتي وأوسكار وايلد وفرجينيا وولف من ضمن الكتب الأكثر رواجاً!