ما تقوم به بعض وسائل الإعلام هو حرب من أجل إحداث تأثير معين في نفوس جمهور معين لخلق رأي عام بعينه؛ فهي إذاً أحد مظاهر الحرب وأدواتها الفعالة والأكثر تأثيراً.

Ad

بدأ السياسيون العقائديون بلفت أنظارنا إلى مدى تأثير الإعلام في صناعة الرأي العام وبلورته؛ فها هو هتلر يقول في كتابه "كفاحي": "إن دور حاجز النار الذي تنفذه المدفعية، ستقوم به في المستقبل الدعاية، التي ستعمل على التحطيم المعنوي للخصم قبل أن تبدأ الجيوش عملها".

وقد كان الزعيم السوفياتي نيكيتا خروتشوف أكثر وضوحاً في ذلك؛ إذ قال بدوره: "الصحافة سلاحنا الفكري والأيديولوجي، فإذا كان الجيش لا يستغني عن السلاح في القتال، فإن الحزب الشيوعي لا يستطيع القيام بأعماله في الميدان الفكري والأيديولوجي بغير سلاح الصحافة".

وحين حاول البروفسير الأميركي الشهير، في جامعة هارفارد، جوزيف ناي، أن يصوغ العلاقة بين الإعلام والرأي العام في كتابه المهم: "القوة الناعمة: سبل النجاح في عالم السياسة الدولية"، الذي صدر في عام 2004، قال إن "المعارك لا يمكن أن تُربح فقط في ميادين القتال، وإن الكاسب في الحرب هو ذلك الذي تكسب قصته في الإعلام".

إنها حرب إذاً تلك التي تخوضها بعض وسائل الإعلام من أجل إحداث تأثير معين في نفوس جمهور معين لخلق رأي عام بعينه؛ أو هي أحد مظاهر الحرب وأدواتها الفعالة والأكثر تأثيراً.

يحدث هذا في الشرق كما يحدث في الغرب تماماً. ففي يونيو من عام 2005، أراد الدكتور أيمن الظواهري الرجل الثاني في تنظيم "القاعدة" آنذاك أن يقدم النصح إلى زعيم التنظيم في العراق، في ذلك الوقت، أبي مصعب الزرقاوي، فبعث إليه برسالة جاء فيها قوله: "وتذكر دائماً يا أخي أن نصف معركتنا في الإعلام".

لم تكن تلك أول إشارة إلى استخدام التنظيمات العقائدية لسلاح الإعلام، بل إن أدبيات تنظيم "الإخوان" توضح الاهتمام الكبير بالعمل الصحافي والإعلامي منذ انطلاق دعوة حسن البنا، في الإسماعيلية (شرق مصر)، في عام 1928. فقد أكد البنا على أتباعه ضرورة التركيز على استخدام الصحافة والإعلام من أجل تنشيط الدعوة والتجنيد وبث الأفكار، ولذلك فإن عدد الصحف التي أصدرتها "الجماعة" كانت نحو عشر صحف ومجلات، في الفترة بين ثلاثينيات القرن الماضي وخمسينياته.

يعطينا تنظيم "داعش" المثل الأوضح على تكريس آلة الإعلام من أجل المعركة ومشروع الدولة، ولذلك، فالتنظيم يمتلك نحو سبع مؤسسات إعلامية مكتملة الأركان، ويسخر آلاف المواقع الإلكترونية والحسابات لخدمة أهدافه،

ويحدث هذا في العمليات السياسية كما يحدث في ميادين القتال.

فها هو الخبير الأميركي غراهام رامسدين، المختص ببحوث "الإعلام والديمقراطية"، يؤكد أن "الدراسات العلمية أثبتت أن التغطية الخبرية للعمليات الاجتماعية المختلفة تؤثر في اتجاهات الجمهور وربما تقوده إلى اتخاذ قرارات ودعم أو رفض سياسات بعينها".

وهو الأمر ذاته الذي يوضحه المفكر الأميركي المعروف بول كروغمان بقوله: "كان يمكن للانتخابات الرئاسية الأميركية في عام 2000، أن تنتهي بنصر مؤزر لآل غور، لو لم يتخذ الإعلاميون موقفاً سلبياً منه".

تؤكد غالبية الدراسات والأبحاث التي أجريت في الواقع السياسي والاجتماعي العربي في العقود الخمسة الأخيرة أن وسائل الإعلام تلعب دوراً مهماً في بلورة الرأي العام وتشكيل اتجاهاته.

تقول الباحثة هالة بغدادي في دراستها التي حصلت بها على درجة الدكتوراه من كلية الإعلام، جامعة القاهرة، عام 2007، تحت عنوان: "التغطية الإخبارية للفضايات العربية"، إن "القنوات الإخبارية تحدث تأثيراً بالغاً في اتجاهات الرأي العام العربي تجاه الأحداث الجارية".

وتشير الباحثة، في رسالتها، إلى أن نتائج أبحاثها التطبيقية أظهرت أن بعض القنوات الإخبارية تمتلك القدرة على "إقناع الجمهور العربي بتبني وجهة نظر جديدة تجاه القضايا العربية".

وفي دراستها المعنونة بـ"دور الإعلام الفضائي العربي في الثورات العربية"، المقدمة إلى مؤتمر جامعة "فيلادلفيا" السابع عشر، بعمان، الأردن، في نوفمبر 2012، توصلت الدكتورة مي العبدالله إلى أن "الفضائيات العربية مكنت الجمهور من متابعة القضايا الحيوية بصورة أفضل، وباقترابها من الشارع العربي أصبحت ذات تأثير أكبر في الناس، وبالتالي باتت داعما حقيقيا لنجاح أي ثورة أو انتفاضة تحدث في المنطقة". يتفق علماء بارزون؛ مثل هارولد لازويل، وولبور شرام، ولازرسفيلد، وميرتون على أن تأثير وسائل الإعلام في الأفراد والمجتمعات يعد "حقيقة من الحقائق الثابتة"، بل يؤكد بعضهم أن وسائل الإعلام تؤثر في مجرى تطور البشر، كما يربط هؤلاء الباحثون بوضوح، وعبر دلائل علمية، بين التعرض لوسائل الإعلام والسلوك البشري.

يشير هؤلاء الباحثون إلى أن هناك اتفاقاً عاماً على أن وسائل الإعلام "تحدث آثاراً في القيم الاجتماعية، وتقوم بدور ملموس في تكوين الآراء"، وتستطيع أن "تضفي المكانة والقوة على بعض الأفراد والجماعات من خلال التركيز الإعلامي عليهم".

 يوضح لنا هذا كيف سقط القذافي بعدما سقطت عاصمته "في الفضائيات"، وكيف وقعت الموصل في يد "داعش" بعدما تم قصفها عبر "مواقع التواصل الاجتماعي"، وكيف يشعر الجمهور بأن عاصمة ما تغلي والاحتجاجات تطوقها من كل جانب، في حين لا يزيد عدد المتظاهرين عن مئة في ثلاثة أزقة.

يقول الكاتب الأميركي فيليب سيب، معلقاً على أحداث سقوط العراق في قبضة القوات الأميركية، في عام 2003: "لا تخاض معركة كسب العقول والقلوب في منطقة الشرق الأوسط في شوارع بغداد فقط بل في نشرات الأخبار وبرامج (الجزيرة) الحوارية".

يعتقد فيليب سيب أن الأساليب التقليدية لصنع السياسة الدولية "قد تم تجاوزها بفعل تأثير الإعلام الجديد والبث الفضائي وأدوات أخرى عالية التقنية". وقد أضاف في الكتاب الذي ألفه بالإنكليزية سنة 2006، أن وسائل الإعلام القوية يمكن أن تؤثر في صياغة الصراعات العسكرية والسياسية مثلما تؤثر عناصر القوة الصلبة المباشرة تماماً.

سيفسر لنا هذا الأسباب التي تدعو الدول إلى إنفاق المليارات في تمويل وسائل الإعلام، وسيشرح لنا أيضاً الأسباب التي تدعو رجال الأعمال إلى استثمار أموالهم في تملك الفضائيات والصحف التي لا تحقق أي مكاسب، إنها الرغبة في كسب المعارك وصياغة الرأي العام وتوجيه العقول.

* كاتب مصري