هذا صباح يغسل اليأس عن رداء القلب، تفوح منه رائحة بشائر الفرح الغامض من كل ما يحيط بالمكان من نبات وزهر وربما أيضاً حجر، اخترت طاولة لتناول وجبة الإفطار في ركن من المساحة المخصصة للمطعم في حديقة الفندق المطلة على حمام السباحة، الطقس يميل إلى البرودة قليلاً، تلك الدرجة من البرودة التي لا تحرمك فرصة التوحد مع الطبيعة بل تمنح جسدك وخيالك فسحة كبيرة للمشاركة في كتابة "نوتة" الصباح مع العصافير والأشجار والعشب الندي، والعمال الذين يقومون بتنظيف حمام السباحة وصيانته، وابتسامات النادلة في وجه كل من أتى من نزلاء الفندق حاملا على وجهه بعض تجاعيد الخدر إثر النوم، ممنّيا نفسه بإفطار شهي وفنجان قهوة ساخن، يفتتح به شهية هذا اليوم.

Ad

أعيش بهجة المكان وحدي دون مشاركة أحد، أتناول إفطاري وحدي، فنجان قهوتي يبقى وحيدا على طاولتي لا يؤنس وحدته فنجان آخر ولا يشاركه طعم الرغوة الكثيفة على سطحه، حاولت إغراء عصافير تحط قرب طاولتي بفتات الخبز لعلها تشاركني الطاولة، ومتعة الصباح، إلاّ أنها لم تطمئن لدعوتي لها ولم تحفل، ألتفت يميناً ويسارا منّي أقرأ الوجوه حولي لعلي أجد شفتين مهيأتين للحديث مع غريب، وبرغم بشاشة الوجوه فإن كل شفتين غارقتان في عسل الكلام مع شفتين أخريين، ولا مجال لحشر شفّة ثالثة بينهما، لا سيما شفة غليظة كشفتي!

أنا لا أحتمل البهجة وحدي، ولا أتصور أن الفرح يمكن حمله بقلب واحد فقط، أؤمن أن الفرح لكي يحلّق عالياً ويجنّح في الفضاء لا بد له من قلبين، قد أحتمل أن أعيش لحظة الحزن وحدي، ويتثاقل بحملها كاهل قلبي، وأطوي عليها أضلعي لتصبح سجينة في صدري، أستطعمها وحدي، وأتجرع مرارتها وحدي، ويتمري بها وجهي فقط.

قد تكتفي لحظة الحزن بقلب واحد فقط، تنزل في ساحته، وتملأ فضاءه وتطرد من سمائه كل ما سوى الطيور السوداء، قلب واحد تجعل من أضلعه أعواد بردي، ومن أنفاسه نيران لهب، وقد يُرضي ذلك القلب الواحد غرور لحظة الحزن تلك. لكن لحظة الفرح لا يرضيها أن يتبّخر بـ"تولة" عودها قلب وحيد، وإن حاول القلب ذلك، فستحرمه رائحة البخور وتمنحه وهج الجمر، كل متعة لا تقبل القسمة على أكثر من قلب تضمحل ويتلاشى عبيرها، وتذهب بركتها أدراج الريح، يملأني ذلك الإيمان ضيقاً في هذه اللحظة، وأبحث في المكان عمن يشاركني لحظة المتعة هذه قبل أن تذبل فلا أجد، فجأة يسقط المطر، مطر خفيف ودود، فإذ به يصل إلينا من خلال فتحات مربعة هندسية صغيرة بسقف العريشة فوقنا غير المغطاة، يترك الجميع طاولاتهم سريعاً هروباً من المطر مخلفين وراءهم بقايا إفطارهم ومتعة لهم طرية زادها المطر بللا، إلا أنا! بقيت في المكان وحيداً مستمتعاً بقطرات الماء التي تجمعت على طاولتي، وربما أغرت بعض العصافير لتحط على طاولتي وتقتات بعض فتات الخبز الذي كانت قد تجاهلته، في هذه اللحظة فتحت جهازي النقال واخترت باقة من الأغاني القديمة مثل يا محمدي، وعيناك، وشراع الهوى...

حينها فقط بدأت فرحتي تتسع لتشملني أنا والمطر والعصافير والأغاني على ذات الطاولة.

إذا عز من يشاركك من الناس فرحتك، فالطبيعة ملأى بمن يشاركك كأس الفرح، فلا تغص به وحدك!