يمكن للمتابع لخطاب الحكومة المتعلق بمخاطر العجز المالي أن يلمس تراجعا لافتا في نوعية القضايا والمحاور الخاصة بالسياسات الإصلاحية خلال عام كامل.

Ad

فمع تراجع أسعار النفط في النصف الثاني من العام الماضي برزت على الساحة اتجاهات حكومية صارمة تتعلق بإصلاح الاختلالات الأساسية في الاقتصاد الكويتي من سوق العمل إلى التركيبة السكانية، مرورا برفع نسبة القطاع الخاص الحقيقي، والمنتج من الناتج المحلي الإجمالي، وتغيير فلسفة الإنفاق في الميزانية من الاستهلاكي إلى نظيره الاستثماري، واستقطاب الأموال الأجنبية وتحفيز المحلية، لتكون لدينا بيئة استثمار جاذبة تمكن الدولة من جباية الضريبة، فضلا عن وقف الهدر المالي وتنويع الإيرادات غير النفطية، وغيرها كثير من أدوات الإصلاح الاقتصادي.

إلا أنه مع مرور أكثر من عام على بداية تدهور أسعار النفط عالميا ومحليا تحول خطاب الحكومة من الاقتصادي الإصلاحي الشامل إلى التركيز على الاقتراض لسد العجز في الميزانية، عبر إصدار سندات تعوض المفقود من الإيرادات النفطية مقارنة بالمصروفات.

حاضر ومستقبل

التركيز على الاقتراض لسد العجز في الميزانية كبديل عن إصلاح الاقتصاد يعني أننا نتجه إلى شراء الحاضر على حساب المستقبل، وأن الدروس المستفادة من انخفاض أسعار النفط محدودة، إن لم تكن معدومة، فنحن بحاجة إلى اتخاذ قرارات عاجلة كضبط النفقات غير الضرورية، وترشيد الصرف والعمل على وضع سقف للميزانية لا يمكن أن ترتفع فوقه، وأخرى متوسطة المدى تتعلق بالإسراع في تنويع سوق العمل وتنويع الاقتصاد وإطلاق خطة تنمية حقيقية بأدوات قياس عملية، لا خطة تنمية فشلت الحكومة في إدارتها فوضعت خطة أخرى محدودة الطموحات.

فلا بأس لو كانت الاستدانة تتم بعد معالجة إيرادات الميزانية العامة، أما قبلها واعتبار ذلك هو الحل فهذا ينم عن عدم رغبة حكومية في تقديم حلول اقتصادية لأزمة أحادية الإيرادات في الميزانية، بل والبحث عن الحلول السهلة في ظل وضع اقتصادي صعب.

بـ 35 دولاراً

في 18 نوفمبر من العام الماضي أقفل سعر البرميل الكويتي عند مستوى 71.40 دولارا، وبالمقارنة مع إقفال أمس تكون الكويت خسرت 50 في المئة من إيرادها الأساسي الذي يمثل 93 في المئة من إجمالي إيراداتها.

لكن ماذا يعني أن يكون سعر برميل النفط للكويت عند 35 دولارا؟

يعني أن سعر البرميل للكويت بلغ دون سعر الأساس المقدر بالميزانية بـ45 دولارا، بما يوازي 20 في المئة، ويعني أن الحد الأدنى المقدر لسعر الأساس في تحديد العجز المالي عند 8.2 مليارات دينار مهدد بالزيادة، خصوصا إذا استمرت الأسعار الحالية حتى نهاية السنة المالية دون سعر الأساس، وهو ما سيتبين مع اتمام الحساب الختامي للدولة إلى جانب الابتعاد أكثر عن سعر التعادل البالغ 77 دولارا للبرميل بنسبة أكبر من الفرضيات التي بنيت عليها الميزانية.

إنفاق ومعالجات

خلال عام كامل لم يطرأ على معالجات المالية العامة أي تغير أساسي، رغم الانحدار الحاد في أسعار النفط، مع توقعات أكثر سوءا لمستقبل السوق على المديين القصير والمتوسط، فالغالب خلال هذا العام هو صدور قرارات غير مترابطة تستهدف دعم الإيرادات العامة، لكن دون وجود حل جوهري للعديد من الاختلالات، لدرجة أن الإنفاق العام يوازي في معدلاته إنفاق أي سنة من سنوات الفوائض الـ15 التي مرت على الكويت دون استفادة ملموسة في آلية الإدارة.

وحتى الإنفاق على المشاريع الذي تعاظم خلال العام الجاري إلى 9 مليارات دينار، لتصل قيمة المشاريع الإجمالية المرساة إلى 74.3 مليارا بنهاية سبتمبر الماضي، لم يصب في اتجاه تمويل الميزانية ورفع قيمة الإيرادات غير النفطية، وتوفير فرص عمل تقي الدولة الضغط على القطاع العام، فلا ضير من الإنفاق على المشاريع في زمن العجز، لأن الإنفاق الاستثماري يجب أن ينعكس إيجاباً على إيرادات الدولة وخطط تنويع مداخيلها، فضلاً عن تخفيف العبء الأكبر المتمثل في أثر سوق العمل السلبي على الإنفاق العام.

وعود وقصور

حسب الوعود الحكومية فإن لجنة إصلاح الدعوم ستقدم تقريرها الشامل قبل نهاية العام الحالي، وإذا سلمنا بقدرة الحكومة على تنفيذ ما سيأتي به التقرير من إعادة هيكلة لأسعار الخدمات والسلع الأساسية كالكهرباء أو البنزين، لأنها حسب تجارب سابقة لا تريد «أن تزعل أحد» لا من قطاع خاص ولا مواطنين، فإن خفض فاتورة الدعم بحد ذاته، رغم فائدته على الميزانية بشكل مؤقت، ليس كل الإصلاح الاقتصادي المنشود الذي يستوجب تغيير هيكلة الإيرادات، وخلق فرص عمل في القطاع الخاص، وإيجاد بيئة استثمار تحفز الأموال الأجنبية والمحلية.

في كل دول العالم الإصلاح الاقتصادي يستلزم واحدة من اثنتين، إما أغلبية برلمانية حقيقية غير مشوهة «حزب أو كتلة»، تمرر مشاريع الإصلاح المالية بسلاسة، وإما حكومة شبه خالية من «المقاضب»، فلا فساد ولا اتهامات بالهدر تتولى عمليات الإصلاح دون أن يكون لمعارضيها حجة عليها، ولعل هذين العنصرين مفقودان تماما محليا... فمجلس الأمة رغم مهادنة نوابه لا يستطيع اتخاذ أي قرار إصلاحي لاعتبارات انتخابية، أما في جانب «المقاضب» فالتجاوزات المالية فساد وهدر يشهد عليها ديوان المحاسبة، بل إن الحكومة ذاتها تشكو منها.