يجب ألا ترعبنا القوانين البوليسية عن النقد الصريح، وكشف الفساد ورموزه بالحجج والبراهين والشواهد، وبروح عالية من المسؤولية، وبالأسلوب الحضاري الذي يستقطب العقول والقلوب المحبة لبلدها ومستقبل أبنائها، فحالة الإحباط المصحوبة بالغضب العارم هي الوعاء الذي يقبل الكلمة الصادقة والنقد اللاذع وإن وصل إلى العظم!

Ad

عندما يحذر أكثر من نائب من خطورة قانون الجرائم الإلكترونية الذي أقر مؤخراً في مجلس الأمة والنتائج الكارثية التي قد تلحق بالمواطنين عندما يدخل القانون حيّز التنفيذ، فهذا يدل على أحد أمرين: إما أن يكون هذا التشريع بالفعل أداة لقمع ما تبقى من مصادر الحريات العامة وطرق التعبير عنها، خاصة عبر وسائل التواصل الاجتماعي التي باتت المتنفس الوحيد للشباب، أو يكون هذا التحذير بقصد أو بدون قصد بمثابة إضفاء حالة عامة من الخوف في قلوب الناس لاستكمال القبضة البوليسية التي تصادر حق النقد المباشر والصريح لأوضاع البلد المتدهورة بشكل غير مسبوق!

وإن سياق الأحداث الناتجة عن القبضة الحديدية المتمثلة بالمحاكمات السياسية ومقاضاة مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي وإغلاق الصحف والفضائيات وسحب "الجناسي" يعكس المغزى من قانون الجرائم الإلكترونية وتوقيته والترويج له بهذا الشكل المخيف، خصوصا بعد إغلاق الكثير من الملفات الساخنة التي يشم منها رائحة الفساد المالي، وقد يكون هذا القانون إضافة إلى الممارسات الأخيرة بمثابة وضع خطوط حمراء جديدة وبدوائر ضيقة جداً؛ حتى لا تتكرر تلك المطالبات الكبيرة ونفس السقف العالي، مثل الحكومة المنتخبة والرئاسة الشعبية لمجلس الوزراء والتهجم على أسرة  الحكم، والتفكير في أغلبية برلمانية تتحكم في القرار التشريعي ومصير الحكومة، وبعد ذلك الاندفاع الكبير ونفس أدبيات المعارضة السياسية تتغير الحال ويحسب المواطن ألف حساب حتى للنقد الصغير، ومن خلال دوائر ضيقة جداً لا تتعدى المرور والأغذية الفاسدة والبرامج التلفزيونية على أبعد تقدير!

شخصياً لا أتفق إطلاقاً مع بعض ممارسات المعارضة الجديدة وتصرفات بعض الشخصيات حتى المغردين في استخدام لغة الشتم والبذاءة، وبث سموم الفتن الطائفية والفئوية وشق النسيج الاجتماعي، والتي كان لها الأثر الكبير في خلط الأوراق وضياع أولويات الإصلاح السياسي الحقيقي، ووضع اليد على الجراح الحقيقية لمكامن الفساد، ولكن في الوقت نفسه لا أتوقع أن يكون قانون الجرائم الإلكترونية قد أقر للمحافظة على الوحدة الوطنية، بدليل أن المحبوسين اليوم خلف القضبان لم يتعرضوا أبداً لقضايا طائفية أو قبلية، بل لأسباب سياسية قد نختلف معها، ولكن دعاة الطائفية والفتن كلهم طلقاء وما زالوا مصرين على تصريحاتهم ومواقفهم الشائنة!

لذلك يجب ألا ترعبنا مثل هذه القوانين البوليسية عن النقد الصريح، وكشف الفساد ورموزه بالحجج والبراهين والشواهد، وبروح عالية من المسؤولية، وبالأسلوب الحضاري الذي يستقطب العقول والقلوب المحبة لبلدها ومستقبل أبنائها، فحالة الإحباط المصحوبة بالغضب العارم هي الوعاء الذي يقبل الكلمة الصادقة والنقد اللاذع وإن وصل إلى العظم!