مازال في الأيام خير، فهي مازالت قادرة على السير مثقلة بجراحها العصية على الشفاء، لتأتي إلينا حاملة وردة وإن كانت ذابلة في راحة يدها التي شاخت بها التجاعيد، ومازالت الأيام رغم الأسى الذي رسم كل تفاصيل ملامح وجهها العجوز، وما خلفته الدموع من أخاديد وأودية ملأى بأشجار الحنظل، مازال وجهها قادراً وقت الحاجة على رسم شبح ابتسامة، ومازالت ذاكرتها الهرمة والمتخمة بالآه، جيدة للحد الذي تتذكر أغنية ترددها في موعدها، ولم تخلف ذلك الموعد قط على مر الزمن.

Ad

ومازالت الأيام رغم الحداد المستوطن قلبها وباقي تفاصيل جسدها، تصر على أن تلبس ثياب العيد من حين لآخر، تجتمع كل الأيام المنسوجة من دموع هزائمها، والمغزولة من جراحاتها، تجتمع بين حين وآخر لتختار يوما وتصطفيه من بينها لتسميه عيداً، تزينه بكل ما تملك من الحُلي الرخيصة، وتُخرج من خزانة ملابسها ثوباً أبيض، فقد من نصاعته الكثير وتلبسه إياه، وتبخره بما تبقى لديها من فتات خشب العود، وتُطلِقه في شوارعنا كدرويش يتسكع في الطرقات، متجولا بين البيوت طارقاً أبوابها، لنستضيفه ونقدم له بعضاً من الحلوى التي أعددناها لقدومه، تفعل الأيام كل ذلك لنا وهي المثخنة بشرورنا التي أودعناها في ذمتها، وبعد كل ما رأته منّا- نحن بني البشر- ومازالت تراه من قبح أعمالنا، وبعد كل ما اختبرته من سوء أخلاقنا على مر الزمن، لم ندع أخضر على وجه السلام إلا وعملنا كل ما في وسعنا لإحالته إلى ورق يابس جاف، ولم نترك نهر محبة جار إلا وسددنا في وجهه الطريق، وملأنا جيوبه بالأحجار غير الكريمة، وأخرجنا أسماكه عارية في الصحراء، وأجّرنا مرافئه للقراصنة وقطاع الطرق ورجال العصابات، ولم نترك قطرة دم في وجه التسامح إلا وبعناها بأبخس الأثمان للرصاص وحقد السكاكين وصرخات الثأر الزائف، وهبنا إنسانيتنا ولم نزل لكل متسول من قبيلة الريح، وربينا شياطيننا فينا كما يشتهي أبوها الأكبر حتى أصبحنا نسخة عنها، لم نعد نفرق الخيط الأبيض من الخيط الأسود في دجى أرواحنا، ولا الحلال من الحرام في ظلمة قلوبنا، أصبحنا متوحشين أكثر مما يجب، وبائسين أكثر مما ينبغي، والأيام ترى وترصد كل أفعالنا بفؤاد مكلوم، وعيون أصابها القرح، فكل ما نفعله نحن البشر ينعكس على صورتها فيشوهها، ويُشعل في كل زاوية منها كرنفالا للنار، فتبدو الأيام أقرب للجحيم، ولا نكتفي بذلك، بل نعود لنحملها وزر كل خطايانا، وسوء أعمالنا، ونتّهمها ونلومها على ما نحن فيه من أسى، وهي صامتة لا تجيب سوى بحرقة دمع، بل وتحرص على ألا تنسى أن تهدينا من لدنها يوم عيد لنفرح، ويفرح أطفالنا، ومن شدة البجاحة لدى بعضنا أنه يقابل هديتها تلك بالاحتقار والاستهزاء مردداً "بأي حال عدت يا عيد"، ومع ذلك لم تكف الأيام عن عادتها هذه، ولم تمنع الأعياد في كل عام من طرق أبوابنا وزيارتنا في موعدها، لم تعاقبنا في عام من الأعوام قطّ!

ألا إن للأيام قلب أمٍّ أبتليت بأبناء عاقّين.

كل عام والعيد يأتي فلنفتح له مرة أبواب قلوبنا، لعلّه يُطهّر بعض ما فيها شر!