في أعقاب هجمات باريس الإرهابية التي أسقطت المئات من القتلى والجرحى وأرعبت المجتمع الغربي تداولت المنابر الإلكترونية مقالات، تبرر تلك الهجمات بالماضي الاستعماري للغرب، وما حصل خلال احتلال فرنسا للجزائر وتونس والمغرب وموريتانيا والسنغال من مذابح للمسلمين، وما حصل في البلقان على يد الصرب من قتل وتشريد للملايين من المسلمين، وكذلك ما يحصل اليوم للفلسطينيين من قتل على يد إسرائيل المؤيدة من الغرب، وتختم المقالات بعبارات حماسية: لن ننسى البلقان، لن ننسى غرناطة، لن ننسى فلسطين!

Ad

يخلط هؤلاء- قصداً أو جهلاً- بين مآسي الحروب، والإرهاب الذي يستهدف قتل أكبر عدد من المدنيين الأبرياء في مطعم أو مسرح أو سوق، للحرب أطماعها الاستعمارية وأيضاً ضحاياها، ولكل أمة ماضيها الاستعماري، والإمبراطورية العثمانية لها ضحاياها الذين ما زالوا يطالبونها بالاعتذار، ولكن لا ينبغي لكاتب- يحترم قراءه- أن يخلط الإرهاب بالحرب، أو أن يبحث عن مسوغ للإرهاب، لأنه بذلك يوغر الصدور ويزرع الكراهية ويجند شبابنا لمشاريع «داعش».

تبرير الإرهاب بمظالم لحقت بالمسلمين في الماضي والحاضر تبرير زائف، ودعاية مجانية لـ»داعش»، إرهابيو باريس، وقبلهم إرهابيو نيويورك، لم تدفعهم مظلمة محددة بقدر ما دفعتهم كراهية عميقة للغرب المتفوق. دعونا نتساءل:

لماذا كراهية الغرب؟!

على امتداد أكثر من نصف قرن تم تجريف كامل لعقول ونفوس قطاع عريض وكبير من الجماهير، وشحنها بثقافة «كراهية الغرب» من (3) تيارات سياسية رئيسة هي: التيار القومي، والتيار اليساري، والتيار الإسلامي، وذلك لأغراض أيديولوجية هدفها قلب الأنظمة القائمة والوصول إلى السلطة، فالتيار القومي صوّر الغرب عدواً معوقاً للوحدة برسمه الحدود القطرية (سياسة فرق تسد) ومعرقلاً للتنمية والنهوض، سعيا للتحكم في المقدرات العربية. والتيار اليساري رأى الغرب وحشاً إمبريالياً هدفه الهيمنة على العالم العربي والتهام موارده وإفقاره وإقحامه في حروب وصراعات بلا نهاية بهدف استدامة ضعفه واستغلال موارده، أما رؤية التيار الإسلامي للحضارة الغربية فتنحصر في أنها حضارة مادية، إباحية، صليبية، حاقدة على الإسلام، ومتآمرة على المسلمين، هدفها تغريب المسلمين وطمس هويتهم وفرض العلمنة عليهم لاستدامة تبعيتهم لها.

ورغم الصراعات الدامية بين هذه التيارات الثلاثة على السلطة على امتداد العقود الماضية، فإن الجامع المشترك بينها هو: أيديولوجية «كراهية الغرب» والعمل على زرعها ورعايتها في البنية المجتمعية، وذلك عبر توظيف المناهج التعليمية والمنابر الإعلامية والدينية والثقافية سياسياً وأيديولوجياً بهدف استدامة السلطة.

 لقد ظل التعليم العربي عبر أكثر من (80) عاماً تعليماً مسيساً، ذا طبيعة ماضوية، وظلت عملية التسييس حاكمة لعمل المؤسسة التربوية العربية، طبقاً لأحد أكبر خبراء التربية والتعليم «د. محمد جواد رضا: التربية وإعادة تشكيل الوعي العربي».

ما المحصلة النهائية لزرع ثقافة الكراهية؟

أدى التلاقح والتفاعل بين التيارات الثلاثة على امتداد العقود الماضية إلى إفراز ثقافة متعصبة ومتطرفة هي ثقافة الكراهية تجاه الآخر، ليست ضد الآخر الغربي والأميركي فقط، بل أيضاً ضد الآخر المحلي المختلف ديناً أو مذهباً أو طائفة أو عنصراً، وضد كل دعاة العقلانية والتحديث المطالبين بالإصلاح الجذري وتبني ثقافة المراجعة والنقد والقطيعة مع العناصر المتخلفة في تراثنا وثقافتنا وتاريخنا.

وكان من التداعيات الخطرة لهذه الثقافة انتشار فتاوى التفكير وتهم التخوين، فثقافة الكراهية هي توليفة من عنصرين (التكفير والتخوين)، فإذا كان الديني الوصي على الدين «يكفر» فإن القومي المحتكر للوطنية «يخون»، وكانت المحصلة النهائية ظهور هذه الجماعات الإرهابية الناقمة على المجتمعات المعاصرة وعلى الحضارة الغربية المهيمنة وانتشارها.

والخلاصة: أن مظالم الغرب لنا في الحقبة الاستعمارية ليست هي الدافع وراء العمل الإرهابي، بل هي ثقافة «الكراهية والتحريض» التي تم غرسها في الأرض العربية، بدليل أننا لسنا الأمة الوحيدة التي احتلت واستعمرت وتعرضت لمظالم الغرب، أمم وشعوب عديدة عانت ويلات الاستعمار أكثر منا بكثير، اليابان ضربت بالقنبلة، وفيتنام وكوريا والصين والهند سحقت، لكنها لم تشحن أولادها بالكراهية ولم تنتج مفجرين انتحاريين!

إن قرآننا يحذرنا من الظلم «ولا تزر وازرة وزر أخرى»، فكيف نعاقب شعوبا بجريرة سياسات دولها، وقد يكون بعضها معارضا لها؟! وكيف نرضى بالعدوان عليها والشماتة بها؟! إن هذه ليست من قيم الإسلام ولا من أخلاقيات المسلمين الحقيقية، إن الإرهاب لا يجوز تبريره تحت أي ظرف أو مسوغ، لأن تبرير الإرهاب يديمه وينشره ويدفع ثمنه في النهاية شبابنا.

إن هذه الثقافة هي التي أنتجت المفجرين لا مظالم الغرب أو الأنظمة العربية، وإن ادعوها زوراً لتبرير عدوانهم.

ختاماً: علينا إعلان القطيعة مع ثقافة الكراهية، ولا ينبغي أن نظل أسرى المواريث الاستعمارية، كما أن علينا الإقلاع عن الدعاء على الآخرين من منابر الجمعة، فنحن الأمة الوحيدة التي ما زالت تفعل ذلك، وتنتج القنابل البشرية التي تفجر نفسها في مدنيين آمنين في مساجد ومطاعم وتجمعات بشرية، وعلينا التخلص من هواجس التآمر العالمي والغزو الفكري والعولمة، فنحن أبناء هذا العصر، لندع الماضي بماله وما عليه، ولنزرع ثقافة التسامح ونغرس مشاعر المحبة بين الشعوب والأديان والثقافات في نفوس ناشئتنا، ذلك من أجل حماية مستقبلهم ومستقبل مجتمعاتنا، لا من أجل الغرب وأميركا.

* كاتب قطري