لماذا تمنعون الفيلم؟

نشر في 06-09-2015
آخر تحديث 06-09-2015 | 00:01
سبق للدراما الإيرانية أن أنتجت مسلسلاً عن النبي يوسف عليه السلام، وهو المسلسل الذي أثار جدلاً كبيراً وتم منع عرضه في عدد من الدول العربية، كما لا يمكن أن ننسى أن شركتين سعودية وقطرية أنتجتا وعرضتا مسلسلاً عن الصحابي الجليل والخليفة الراشد الثاني عمر بن الخطاب، في عام 2012، وأن هذا المسلسل بالذات لاقى هجوماً واسعاً من منابر إيرانية، وذهب بعض تلك المنابر إلى منع عرضه.
 ياسر عبد العزيز يواجه فيلم "محمد رسول الله" للمخرج الإيراني مجيد مجيدي معارضة شرسة على مستويات عديدة في العالمين العربي والإسلامي، وهي معارضة لا تقف عند حدود "الموقف الشرعي" من تجسيد الرسول الكريم (صلى الله عليه وسلم) والشخصيات ذات القداسة في عمل درامي فقط، ولكنها تمتد أيضاً لتتخذ منحى سياسياً على خلفية النزاع الإيراني- العربي، أو في قول آخر "الفارسي- العربي".

أبرز الاعتراضات على عرض الفيلم تستند إلى "تحريم" تجسيد صور الأنبياء والأشخاص ذوي القداسة بواسطة ممثلين يمكن أن يكون سلوكهم الشخصي منحرفاً أو محل جدل، أو يمكن أن يلعبوا أدواراً أخرى مستقبلاً تنطوي على عري أو إفساد أو إسفاف، بما يمس قداسة تلك الشخصيات وينال من صورتها.

ومن الزاوية السياسية، يرى البعض أن إعلان صُناع الفيلم عن إنتاج جزأين آخرين يعني ببساطة أنهم سيقومون بتناول الأحداث محل الجدل والخلاف في التاريخ الإسلامي، وعلى رأسها بالطبع مسألة الصراع على الخلافة، وأحقية الولاية، ومواقف الصحابة الكرام، وهي المواقف التي تشكل مصدر اختلاف رئيساً في الرؤى بين الجانبين السني والشيعي، وفي قول آخر العربي والفارسي.

لذلك، فقد سارعت المحافل السنية الأهم، سواء في مصر أو المملكة العربية السعودية، إلى إعلان الموقف الحاسم برفض الفيلم والدعوة إلى منع عرضه، بل وتحريمه، غير حافلة بالطبع بأن "الأصل في الأشياء الإباحة طالما لم يرد فيها نص بالتحريم"، وغير مكترثة أيضاً بأن النصوص القطعية الدلالة في الإسلام لم تعالج هذه المسألة، كما يؤكد علماء موثوقون.

والواقع أنه من الممكن تفهم موقف المجامع السنية الرئيسة التي عارضت عرض هذا الفيلم، من زاوية أنها تتحسب من وقوع أي إساءة لشخص الرسول الكريم أو أي من الصحابة وآل البيت الكرام.

ويمكن كذلك تفهم الاعتبار السياسي وراء اتخاذ مثل هذا القرار ذي الطابع الديني، من زاوية استباق الدول العربية المعنية بالأمر إمكانية صدور الأجزاء التالية من الفيلم، بما قد تحويه من إسقاطات تهدف إلى تعزيز الموقف الإيراني في التضاغط السياسي والاستراتيجي الراهن في المنطقة، أو تؤجج الفتن الطائفية التي تتفاعل في أكثر من بلد عربي في سياق التنافس والتصارع مع طهران.

لكن ما لا يمكن تفهمه هو اعتقاد بعض من قرروا منع الفيلم وتحريمه أن الظروف الاتصالية الراهنة تسمح بتفعيل مثل هذا القرار.

وما لا يمكن تفهمه أيضاً هو انخراط كثيرين من أفراد الجمهور العربي في عمليات تجريم وتحريم للفيلم عبر مواقع التواصل الاجتماعي والأنشطة التفاعلية الأخرى في الإعلام التقليدي والمجتمع، انطلاقاً من ذات التصور المبني على فكرة "حماية القداسة"، بل والقيام أيضاً بـ"تخوين" أو "تكفير" من يقول بصعوبة المقاطعة، أو عدم واقعية المنع.

مازلت أذكر ذلك الصديق الذي أكد لي أنه شاهد فيلم "الرسالة" الذي تم إنتاجه في عام 1976، أربع مرات حين كان ممنوعاً من العرض، وأنه منذ إتاحة عرضه لم يعد يشاهده.

ليت الأمر يقتصر على فيلم "الرسالة" فقط، لكنني أذكر أيضاً كيف قضى أبناء جيلي أوقاتاً طويلة وبذلوا جهوداً حثيثة لكي يحصلوا على كتاب "في الشعر الجاهلي"، أو رواية "أولاد حارتنا"، أو "آيات شيطانية"، أو كتب صادق جلال العظم، وفرج فودة، ومحمد أركون، والعفيف الأخضر، ونصر حامد أبوزيد، وسيد القمني، وخليل عبدالكريم، ومحمد شحرور وغيرهم.

لقد حدث هذا في وقت كانت وسائل الاتصال فيه ضعيفة ومحدودة، وقدرات الدولة على الحجب والمنع والتعتيم قياسية، على عكس ما نشهده حالياً من ثورة اتصالات وانفجار معلوماتي، يجعلان من إمكانية المنع مستحيلة.

لا يعرف كثيرون أن عدد المسيحيين تضاعف أربع مرات خلال المئة عام المنصرمة على المستوى العالمي، ليرتفع من 660 مليوناً إلى 2.2 مليار نسمة، بموازاة إنتاج نحو 395 فيلماً عن السيد المسيح في الفترة نفسها؛ وهي أفلام تراوحت بين "الدعوي التمجيدي" و"النقدي التجريحي"، وكلها استعانت بممثلين ليؤدوا دور السيد المسيح، وغيره من الشخصيات ذات القداسة لدى المتدينين المسيحيين.

لا يقتصر الأمر فقط على الأفلام التي تعرض حياة نبي المسيحية، لكنها تمتد أيضاً لتشمل أنبياء آخرين؛ مثل موسى، ونوح، وآدم، وغيرهم، عليهم جميعاً السلام.

ولا يمكن بالطبع أن ننسى في هذا الصدد أن الدراما الإيرانية سبق أن أنتجت مسلسلاً عن النبي يوسف عليه السلام، وهو المسلسل الذي أثار جدلاً كبيراً وتم منع عرضه في عدد من الدول العربية، كما لا يمكن أن ننسى أن شركتين سعودية وقطرية أنتجتا وعرضتا مسلسلاً عن الصحابي الجليل والخليفة الراشد الثاني عمر بن الخطاب، في عام 2012، حيث جسد شخصه الكريم أحد الممثلين، وأن هذا المسلسل بالذات لاقى هجوماً واسعاً من منابر إيرانية، وذهب بعض تلك المنابر أيضاً إلى منع عرضه.

ثمة واقعة أخرى ذات دلالة يجب إيرادها في هذا السياق، وهي واقعة فيلم "براءة المسلمين" أو "محاربو الصحراء"، الذي أنتجه وأخرجه مخرج أميركي من أصل مصري، وتم عرضه عام 2012، وترتب على ذلك أحداث عنف وتظاهرات شملت دولاً عدة، وشهدت ذروتها في ليبيا حيث تم قتل أربعة دبلوماسيين أميركيين بينهم السفير.

لقد كان الفيلم مسيئاً بحق الرسول الكريم، لكنه كان ضعيفاً فنياً وإنتاجياً بدرجة كبيرة، ولم يتم الالتفات إليه أو التوسع في مشاهدته إلا بعد موجة العنف والتظاهرات والاحتجاجات التي صاحبت عرضه.

إن منع عرض فيلم "محمد رسول الله" قرار اختلط فيه التأويل الشرعي بالموقف السياسي، وهو قرار لم يُدرس جيداً.

لا يمكن منع عرض أي مصنف فني عبر قرار يصدر عن أي سلطة في ظل النظام الاتصالي الراهن، الذي أذاب القيود وأطاح الحدود.

يخبرنا التاريخ أن كل مصنف فكري أو أدبي أو فني ممنوع مرغوب، وأن التكالب على مطالعته واقتنائه يزيد كلما زادت حدة المنع.

* كاتب مصري

back to top