ناصر عراق: نعيش أزمنة من غبار

نشر في 24-08-2015
آخر تحديث 24-08-2015 | 00:01
لا يؤمن الروائي المصري ناصر عراق (1961) بفكرة تصنيف العمل الأدبي خلال عملية الكتابة، فهو يكتب مدفوعا برغبة ضاغطة في أن يعبر عما يمور داخله، من دون أن يتقيد بتصنيف روايته إن كانت تندرج تحت مصطلح الواقعية الثورية أو الاشتراكية أو غيرهما. يرى صاحب {تاج الهدهد}، و«أزمنة من غبار}، و«العاطل}، و«من فرط الغرام}، والذي صدرت له أخيراً رواية {الأزبكية}، أن ثمة أزمة في التعاطي مع التاريخ الحديث الذي أكد أنه ما زال يضم في طياته آلاف الخفايا التي لم تتكشف بعد ويجهلها معظم أبناء الجيل الجديد، وهو الجيل الذي أكد أن أزمته الحقيقية تتمثل في الانتماء للوطن، فيقول: {أزمة الجيل الحالي مرعبة، إذ يبدو أن الانتماء للوطن صار أمراً مشكوكاً فيه}.
لماذا اخترت الأزبكية عنواناً وفضاء مكانياً لروايتك الأخيرة؟

تمثل الأزبكية البؤرة المكانية الأهم في مصر طوال عدة مئات من السنين، فقد كانت مقرا لقصور الأثرياء من المماليك الذين حكموا مصر نحو ثلاثة قرون بشكل مباشر وثلاثة أخرى بشكل غير مباشر، كذلك كانت الحي الذي يقطنه الأجانب الأوروبيون المقيمون بمصر، كذلك الشوام. أما نابليون فلم يجد أفضل من قصر الأمير المملوكي الهارب محمد بك الألفي بالأزبكية ليتخذه مقراً له عندما جاء بحملته الفرنسية إلى مصر عام 1798. يبقى أن محمد علي باشا الذي حكم مصر منذ مايو عام 1805 أقام في قصر بالأزبكية طوال أول سنتين من حكمه، قبل أن ينتقل إلى القلعة، ولما وصل الخديو إسماعيل إلى حكم مصر عام 1879 أعاد إحياء منطقة الأزبكية وفقاً لضرورات العصر الحديث آنذاك، فأمر بردم بركة الأزبكية التي كانت تتوسط المنطقة وتعرقل نموها العمراني، ثم أنشأ قصر عابدين على أطراف الحي ليصبح مقرا للحكم بدلا من القلعة، رمز العصور الوسطى، كذلك شيد دار الأوبرا الخديوية في قلب الأزبكية (وقد احترقت في عام 1971 بكل أسف)، فضلا عن تأسيسه لما يسمى الآن (منطقة وسط البلد) التي تعد امتداداً طبيعيا للأزبكية، لكل هذا اخترت ذلك المكان النادر والمنسي في تاريخنا السياسي والاجتماعي لتدور في فضاءاته روايتي الجديدة.

ماذا عن الأزبكية بالنسبة إلى ناصر عراق؟

بالنسبة إلي تعد الأزبكية مستودعاً خصباً لذكريات شخصية جميلة، فهي تحتشد بمسارح الدولة (القومي/ الطليعة/ العرائس) وهذه المسارح كنت أرتادها بانتظام بدءا من نهاية سبعينيات القرن الماضي، وشاهدت نجوم مصر المتميزين يصولون ويجولون على خشباتها، كما أن نصف مكتبتي الشخصية جمعتها من سور الأزبكية الذي كان يضج بباعة الكتب المستعملة.

من وجهة نظر أدبية، ما الفرق بين الأزبكية قديماً وحديثاً، وهل التغيير الحادث إلى الأفضل أم إلى الأسوأ؟

صارت الأزبكية الآن منطقة عشوائية مثل معظم مناطق القاهرة بكل أسف، فتلاشى الهدوء والسكون واختفت القصور والحدائق، وحلَّت محلها المحلات والباعة ومواقف الباصات والجراجات. غدا الحي الراقي الذي كانته الأزبكية مجرد ذكرى في الكتب، رغم وجود مبانٍ تاريخية ما زال يفوح منها عطر الماضي مثل مبنى البريد والمطافي والمسرح القومي.

لماذا يشعر قارئ الرواية بأن مستقبل الأزبكية مجهول؟

كانت الأزبكية قمة في الروعة الحضارية، والآن ذابت مبانيها التراثية في الفوضى والتكدس البشري الرهيب الذي يغمر المنطقة طوال النهار، الأمر الذي يشي بأن لا يوجد مستقبل مشرق للأزبكية، وهو أمر مفهوم يحدث كثيراً في التاريخ، فالأحياء الراقية لا تبقى على حالها، وإنما تمتد إليها يد الفوضى والإهمال باستمرار، حتى يضطر الأثرياء إلى هجرها وبناء أحياء راقية جديدة في أماكن أخرى وهكذا، وتاريخ الأحياء الأرستقراطية بالقاهرة خير شاهد على ذلك.

رصدت جنوح {جيل الهزيمة} للتطرف في {أزمنة من غبار}، برأيك ما أزمة الجيل الحالي؟ وهل ترى أنه اختلف في شيء عن جيل الستينيات؟

في ظني أن أزمة جيل الستينيات تمثلت في الأسئلة التي تراكمت في عقله دفعة واحدة بعد هزيمة 1967، مثل لماذا حدث ما حدث؟ وكيف نواجهه؟ أي أنها أزمة على أرض الانتماء لوطن حتى وإن كان مجروحاً. أما أزمة الجيل الحالي فمرعبة، إذ يبدو أن الانتماء للوطن صار أمراً مشكوكاً فيه، خصوصاً أن نظام مبارك أغلق نوافذ الأمل في وجوه ملايين الشباب، فلما أشعل هؤلاء الشباب الثورة وطردوا مبارك من عرين الرئاسة، لم يحصلوا على ما يحلمون به من تشييد مجتمع أكثر حرية وعدلاً وجمالاً، لذا تفاقمت أزمتهم وتضخمت بشكل ينذر بخطر داهم.

حملت روايتك {العاطل} إسقاطاً سياسياً ظاهراً... برأيك كيف تسهم الأعمال الأدبية والإنتاج الثقافي بوجه عام في حل أزمة اندثار المواهب؟

حاولت في هذه الرواية أن أرصد مشكلات شباب مصر في عصر مبارك، وبالمناسبة لقد صدرت الرواية قبل يوم فقط من ثورة يناير أي في 24 يناير 2011، ولا ريب في أن الأعمال الإبداعية الجيدة من شعر وقصة ورواية ومسرح وسينما وفنون جميلة تسهم على المدى الطويل في تغيير حياة الناس إلى الأفضل، من خلال فضحها الظلم المتفشي في المجتمع، ومحاولة القضاء عليه، فضلاً عن أنها تتيح الفرصة لاكتشاف المزيد من الموهوبين في المجالات الإبداعية المختلفة.

هل ترى ما جرى في مصر منذ 2011 وحتى الآن قفزاً على كل خيال إبداعي أم أنك كنت تتوقع الثورة؟

 لو قرأنا تاريخ الثورات في العالم بشكل جيد لأدركنا أن كثيراً مما حدث في ثورة يناير وما تلاها حتى هذه اللحظة يتشابه مع ثورات أخرى في مجتمعات متنوعة. على سبيل المثال، ظلت الثورة الفرنسية الكبرى حائرة لمدة عشر سنوات متواصلة منذ اندلاعها في 1789، لدرجة أن حجم تخوين الثوار بعضهم لبعض بلغ مستوى مزرياً، فبعد أن طردوا الملك لويس السادس عشر مضى كل حزب أو جماعة سياسية أو شريحة طبقية تدافع عن مصالحها بعنف لا مثيل له، وروبسبير أحد قادة هذه الثورة أصدر قرارات بإعدام نحو 4000 من {الثوار} في أسبوعين فقط، وقبل أن تمسك به جماعة {ثورية} أخرى وتصدر حكماً بإعدامه هو شخصياً. حدث الأمر نفسه مع الثورة الروسية في 1917، ومع ثورتي الصين في 1925، ثم 1947. خلاصة القول إن الفوضى والارتباك والعنف أمور حتمية في الثورات وما بعدها، والشعوب الذكية فحسب هي التي تختصر مدة الفوضى وتتجاوز الجنون لتبني المجتمع العادل الذي حلمت بتشييده.

back to top