تجنب الحديث عن البيئة السياسية الحاضنة التي وُلِدت وترعرعت فيها قوى الإسلام السياسي، ودعاته، ومُروّجو أفكاره، وبرز فيها دعاة الكراهية الطائفية والمحرضون على البغض المذهبي، يشبه عمل الطبيب الفاشل الذي يعجز عن تشخيص المرض، بشكل دقيق، فيستعيض عن ذلك بالتركيز على تسكين بعض أعراض المرض ويهمل معالجة سببه الرئيس، وهو ما يؤدي حتماً إلى وفاة المريض.
مكافحة الإرهاب الأسود، الذي بات يهدد وجودنا جميعاً، تتطلب معالجة أسبابه لا التركيز فقط على أعراضه، ومظاهره الكثيرة، والمتجددة والتي لا تنتهي إلا عندما تعالج الأسباب الجذرية.إنه من غير المجدي حقاً التوقف فقط، كما يفعل بعض الكُتّاب والساسة والمُعلقين، عند نقد القوى الإرهابية، وتحليل عملياتها الإجرامية، وكأن ذلك سيقضي عليها، أو إلقاء اللوم، بسذاجة بالغة، على الناس وطرق تفكيرهم، وكأن الأفكار تنشأ، وتتطور بمعزل تام عن الواقع المادي الملموس، فضلاً عن أن البعض يصب جام غضبه، على المُحرّضين ودُعاة الكراهية فقط، مع تجنب الإشارة، ولو تلميحاً، إلى نهج الدولة وسياساتها التي سمحت لهم ودعمتهم، إذ لولا الضوء الأخضر منها لما تجرأ المتطرفون دينياً والمحرضون على الكراهية، الذين أصبح بعضهم بالنسبة إلى فئة الشباب أشهر من نجوم هوليوود، على اعتلاء منابر المساجد، والتدخل في المناهج الدراسية، و"احتلال" البرامج الإذاعية والتلفزيونية والفضائية. بعبارات أخرى، فإن تجنب الحديث عن البيئة السياسية الحاضنة التي وُلِدت وترعرعت فيها قوى الإسلام السياسي، ودعاته، ومُروّجو أفكاره، وبرز فيها دعاة الكراهية الطائفية والمحرضون على البغض المذهبي، يشبه عمل الطبيب الفاشل الذي يعجز عن تشخيص المرض، بشكل دقيق، فيستعيض عن ذلك بالتركيز على تسكين بعض أعراض المرض ويهمل معالجة سببه الرئيس، وهو ما يؤدي حتماً إلى وفاة المريض.وفي هذا السياق، فإنه لا داعي للذهاب بعيداً والتحدث عن الظروف المُلتبسة المحيطة بنشأة جماعة "الإخوان المسلمين"، (باعتبار أنها تمثل الأساس الفكري الذي انطلقت منه قوى الإسلام السياسي بما فيها ما يُسمى "السلفية الجهادية")، في مصر في ثلاثينيات القرن الماضي، أي أثناء الأزمة الاقتصادية الرأسمالية (الكساد الكبير)، وبروز الفاشية والنازية في أوروبا، أو ملابسات تلقيها دعماً مالياً من الإنكليز، بل يكفينا في هذا الخصوص الحديث، بشكل مختصر، عن الظروف العالمية، والعربية، والمحلية التي برزت فيها قوى الإسلام السياسي في سبعينيات القرن الماضي، أثناء فترة الحرب الباردة، ومع بدء طور جديد من أطوار الرأسمالية الاحتكارية التي كانت تعاني، في ذلك الوقت، أزمة دورية، وهو طور أو مرحلة "النيوليبرالية"، حيث يتضح أن قوى الإسلام السياسي نشأت بدعم، ليس بالضرورة مادياً، وتشجيع أميركي- أوروبي، ثم ترعرعت في أحضان الأنظمة العربية التي قدمت لها الدعم المالي واللوجيستي كي تمارس أنشطتها كافة، وتنشر أفكارها في المجتمع لاسيما بين فئة الشباب.في تلك الفترة، كانت أميركا بحاجة ماسة إلى قوى محلية تستخدمها في مواجهة المدّ السوفياتي الذي وصل إلى أفغانستان ومنعه من الوصول إلى مناطق نفوذها الاستراتيجي وسيطرتها في الشرق الأوسط، فما كان منها إلا أن شجعت أنظمة المنطقة التابعة لها لاستغلال المشاعر الدينية الصادقة لعموم الناس، ثم رفع راية "الجهاد"! من أجل وقف تمدد "الشيوعية والكفر"، كما كان الإعلام الرسمي يُسوّق آنذاك.وهذا ما تم بالفعل، حيث تحالفت غالبية الأنظمة العربية سياسياً مع قوى الإسلام السياسي، التي لم تعترض على الممارسات القمعية، وتقييد الفضاء العام في كثير من الدول العربية، كما أنها لا تختلف مع الأنظمة في المنطلقات الاقتصادية النيوليبرالية التي أدت في كثير من الدول إلى الفقر، والبطالة، والتفاوت الطبقي، وغياب العدالة الاجتماعية، والظروف المعيشية القاسية. لقد ترتب على التحالف الجديد مشاركة قوى الإسلام السياسي في "المعركة المُقدّسة"! التي كانت أميركا تخوضها ضد السوفيات في أفغانستان.أما داخلياً، فقد تم السماح لها بالنشاط العام، واعتلاء منابر المساجد، فضلاً عن تسهيل عملية تواصلها المباشر مع الناس بطرق وأشكال مختلفة، وهنا بدأت مرحلة جديدة في منطقتنا سُميت إعلامياً "الصحوة الإسلامية "، وهو مصطلح يُعبّر عن شكل التحالف السياسي الجديد وثقافته، وإعلامه، ونوعية مناهجه التعليمية، وهو الأمر الذي كان يتطلب، على الضفة الأخرى، قيام الأنظمة العربية بمحاربة، وتمهيش، وإقصاء القوى القومية، واليسارية، والمدنيّة الديمقراطية التي كان لها آنذاك نفوذ شعبي واسع، وتأثير سياسي كبير، وذلك من خلال ملاحقة عناصرها، والتضييق عليها، علاوة على إغلاق صحفها، ومنابرها السياسية، ومن ضمنها النوادي والجمعيات الثقافية (مثل نادي الاستقلال)، فضلاً عن إغلاق المجال العام، وحلّ البرلمانات مثلما حصل في البحرين والكويت... وللحديث بقية.
مقالات
التطرف الديني لا ينشأ من فراغ (1)
01-07-2015