خرائط التيه
على مدى عشرين يوماً هو زمن القصّ في رواية (خرائط التيه)، تأخذنا بثينة العيسى عبر سلسلة من الأحداث المأساوية المعقّدة، التي ربما تجعل القارئ يتساءل عن مدى قدرة تلك الأيام العشرين على استيعاب هذا الكم المهول من التسارع والتزاحم في الأحداث والقضايا، فضلاً عن نمو الشخصيات الذي يبدو كطفرات حادة تحدث في لمح البصر! حين تأملتُ في صورة الغلاف وما احتوته من خرائط وإشارات لمواقع وأمكنة جغرافية ومضائق وبحار، خلت أنني إزاء إبحار مكاني وزماني في تيه ممتد بلا نهاية. وحين قرأت الاستشهاد في مطلع الرواية في شعر أبي تمام:
تاهتْ على صورة الأشياء صورتُه حتى إذا كمُلتْ تاهتْ على التيهخلتُ -ولا أدرى لمَ- أنني على وشك الغوص في رحلة بحث وجودية أو روحية تتخذ من امتدادات الأرض مطية إلى فضاءات أرحب، واستشراف أعمق لحقائق الوجود الممعنة في التيه، تماماً كما يمعن أبوتمام في التخييل والمجاز والإيماء. بيد أن اكتشافك للقضية المطروحة في الرواية، وهي قضية (المتاجرة بالأعضاء البشرية)، وما تستلزمه من عمليات اختطاف تنفذها عصابات متمرسة، يجعلك تسقط في هوة التساؤل عن علاقة الشعر المغموس بما يشبه الحلم بواقع فجّ يرشح بهذا الكم من القسوة والانتهاك لكرامة الإنسان. وإذا أضفتَ إلى ذلك ما لا يُحتمل من مشاهد تعذيب الأطفال واغتصابهم وتشويههم تصبح الصورة أكثر ظلاماً ونأياً عن تخييل أبي تمام وشطحاته الشعرية. في حوار دار بيني وبين بثينة على صفحة الـ"فيسبوك" قلت لها بصدد التعليق على مشاهد الرواية: "الحديث عن تعذيب الأطفال مفجع ومقزز ويسبب لي الكثير من الوجع... الله يسامحك". لقد اختارت الكاتبة شخصية (مشاري) الطفل الكويتي ليكون ضحية اختطاف أثناء موسم الحج في مكة، ثم ما تبع ذلك من رحلة تعذيب مأساوية للطفل ذي السنوات السبع، وما يوازيها من رحلة تعذيب نفسية لذويه وهم بصدد البحث المحموم عنه من السعودية حتى حدود مصر وسيناء. وبعد جهود مضنية يتم العثور على الطفل بعد أن أضناه التعذيب والترويع والاغتصاب والتجويع والضرب... إلخ. وفي موازاة ما يحدث لمشاري، كانت تدور أحداثٌ ذات صلة بعمليات الاختطافات للأفارقة الفقراء خاصة، بهدف المتاجرة بأعضائهم البشرية، مع الكشف عن مافيا من الكبار لها ضلع بما يحدث من انتهاكات. ثم يفهم القارئ بأن (مشاري) الكويتي الفاتح البشرة مقارنة بالأفارقة، قد تم اختطافه بطريق الخطأ، أو بمبادرة خارجة عن مخططات العصابة المختطِفة. ولكنه في النهاية يتحدد مصيره بشكل مأساوي مترتب على ذلك الخطأ، الذي غدا خطيئة في ضوء ما حدث له لاحقاً. وشيئاً فشيئاً تتضح معالم القضية التي شغلت الكاتبة، والتي تدور حول تجارة الأعضاء في المنطقة العربية، وكيف دفعتها هذه القضية إلى البحث في الكثير من المصادر، والاستهداء باستشارة الناشطين في هذا المجال ومراجعهم التوثيقية، حسب ما هو مذكور في هامش الرواية. وحيث إن الرواية تتخذ من قضية المتاجرة بالأعضاء البشرية العمود الأساسي لمعماريتها الفنية، ربما يتساءل القارئ عن سبب التفصيل والإطالة في رصد مشاهد تعذيب (مشاري) على يد (نظام شجاع الدين) الوافد الآسيوي الذي يعمل في مزرعة نائية بعد أن سقط الطفل في يده مصادفة! فهذا الوحش البشري المختل نفسياً والمريض روحياً وإنسانياً، لا علاقة له على الإطلاق بعصابات المختطفين أو المتاجرين بالأعضاء، إنما سوء حظ الطفل يأخذه إليه كلقمة سائغة، لذا فكل ما تعرض له الطفل من وحشية وسادية سلوكية من قبل (نظام) لا صلة له من قريب أو بعيد بعمود الرواية ومرتكزها الأساسي! وبدت المشاهد المروّعة مجرد إضافات أنهكت القارئ شعورياً ونفسياً وعذّبته دون ضرورة تقتضيها معمارية الرواية. في تكملة لحواري مع الكاتبة على صفحة الـ"فيسبوك" بادرتها قائلة تعقيباً على مسألة تعذيب الأطفال: "عزيزتي هذا لون من السادية الأسلوبية، ويمكن الوصول إلى الغاية بالتلميح والإيماء. يكفي ما نراه من انتهاكات يومية للطفولة في عالم مسعور بلا قيم، لا نريد المزيد من لغة العنف والقسوة في خطاباتنا الأدبية فقد طفحت قلوبنا من الهمّ. إنني ضد أن يتحول العمل الأدبي إلى فيلم رعب نفسي وعاطفي يشعر خلاله القارئ أنه هو أيضاً يُنتهك ويُغتصَب بتلك الأسلوبية المفجعة التي تؤذيه حتى العظم! وأرى أن دور الأديب هو أن يرتقي فوق هذا العالم البشع ولا يستنسخه، وأن يبحث عن أدوات تلائم وظيفته الإنسانية دون التخلي عن رسالته في فضح وإدانة القسوة والعنف".