دون شك يستطيع أغلب الكتاب الذين يعيشون ثقافة أحادية أن يقدموا أعمالا رائعة حتى وإن اعتمدت هذه الثقافة على بُعد أوحد لم يعد ينمو عموديا. ولكن الكاتب الذي يعيش أكثر من حضارة وأكثر من لغة يفيد من مزيج هذه الحضارات وتنوعها. وفي هذا الزمن الغربي بامتياز تبدو الكتابة باللغة الإنكليزية طريقا أقصر للشهرة والانتشار، وتقديم ثقافتين بمزج ابداعي هو تتويج لهاتين الحضارتين وابهار للقارئ أيا كانت ثقافته.

Ad

وأنا أنهي قصص مجموعة الكاتبة الأميركية جومبا لاهيري "مترجم الأمراض" لم تدهشني كثيرا تفاصيلها الدقيقة والتي ربما لا تحتاجها القصة القصيرة كما تحتاجها الرواية، ولكن أدهشني هذا المزج بين حيوات أبطالها الذين يعيشون تأرجحا بين ثقافتين، والتعايش مع ثقافة جديدة ليس من نقطة الصفر التى تبدو لازمة للاستمرار ولكن في التواصل مع ثقافة الأبطال الأولى. كانت هذه التفاصيل الدقيقة للحيوات المتشابكة تبدو منقسمة إلى قسمين غير متكافئين، الأول داخلي ينعكس على الحياة في المحيط الضيق كالبيت وبيوت الأصدقاء من الحضارة ذاتها، والآخر خارجي يقع تحت وطأة ما يسمى "الصدمة الحضارية" أو Cultural Shock وهو عدم امكانية التعايش التام مع الخارج الغريب عنها.

أبطال جومبا لاهيري هم مجموعة من الهنود الذين استقروا في أميركا يعملون في الخارج تحت وطأة الحضارة الأميركية بكل أبعادها المادية ويعودون إلى تفاصيل حياتهم الهندية بين جدران منازلهم، يمارسون حياتين منفصلتين في محاولات يائسة من التماهي التام مع الحاضر والانفصال عن الماضي، وحتى الذين وُلِدوا في أميركا ووجدوا أنفسهم في معزل جغرافي بعيد عن الوطن الأم يعيشون ازدواجية الحضارتين بشكل أو بآخر ويفشلون في التخلص من حمى الوطان أو "النوستالجيا" والحنين لإرثهم، وهو ما نجحت الكاتبة في سرده من خلال طِباعهم في الغذاء والفن والموسيقى، فأبطال قصة "شأن مؤقت" يشترون لحومهم من محلات المسلمين ويشربون النبيذ الأميركي ويشكل الفلفل والزنجبيل بعدا ثقافيا في مأكولاتهم، حتى وإن لم يزورا بلدهم الأم منذ ولادتهم.

القصة الأكثر عمقا هي قصة "مترجم الأمراض"، لا لأنها الأجمل فنيا ولكنها الأكثر صدقا في تقديم صورة عن حياة المغتربين الذين يعودون لبلادهم في سياحة لاكتشاف معالمها التي لم يعرفوها من قبل، فهم لا يتحدثون لغتهم الأم، وعلى دليلهم السياحي أن يجيد لغتهم الجديدة لكي يتفاهم معهم. والدليل السياحي، إضافة إلى عمله هذا، يعمل مترجما في عيادة يترجم ما يقوله المرضى الذين لا يجيد الطبيب لغتهم، ولكن السيدة أم الأبناء الثلاثة وزوجها في رحلتهم إلى معبد الشمس تختاره هو دون غيره لتقول له سرها الذي كتمته ثماني سنوات في أميركا دون أن تجد من يمكن أن ترتاح إليه وتقوله له.

قالت للرجل الذي التقته للمرة الأولى في حياتها إن أحد هؤلاء الأبناء ليس من زوجها، الذي تسميه الراوية "داس" وتسميه السيدة داس باسمه "راج"، وإنما لرجل التقته مرةً واحدة. لم يكن ذلك السر المبتذل هو القضية الأساسية في القصة، بل المكان الذي اختارته لتقوله فيه، وحين حاول الدليل السياحي أن يقوله في أذن الصبي المقصود تردد لأن الصبي كان خائفا من القرود التي أفزعته. في إشارة ألا يعود السر إلى أميركا. سترحل العائلة أما سر السيدة فسيبقى في الهند وطنها الذي لم يبق لها فيه سوى هذا السر البغيض.

تستحق أعمال لاهيري الحفاوة التي تناولتها بها الثقافة الأميركية ككاتبة قصة من طراز رفيع أولا، وككاتبة خرجت عن تقديم الصورة التي يراها الغرب للآخر المهاجر، والصورة التى يريد أن يراها المهاجر لنفسه.

هذه المجموعة مترجمة للعربية بعنوان "ترجمان الأوجاع" وهي ترجمة تستحق عنها مروة هاشم الإشادة للتصرف الجميل في نقل حتى تلك التفاصيل التي لم تترجمها الكاتبة الى الإنكليزية.