إن التطور والتقدم الأوروبي عمره الآن ثلاثمئة سنة، تقريباً وخلال هذه الفترة من عمر التاريخ حدثت أحداث تعد تحولات مهمة في تاريخ البشرية في أوروبا وغيرها، ففي النصف الثاني من القرن الثامن عشر وقعت ثلاثة أحداث مهمة ترتبت عليها متغيرات وتداعيات عمت مناطق ودولاً في أوروبا وخارجها هي: الثورة الصناعية التي كانت نتيجة التطور في التعليم التطبيقي في إنكلترا وغيرها من الدول الأوروبية، والثورة الأميركية وقد حملت تلك الثورة كثيراً من القيم إضافة إلى ما أحدثته في الواقع الأميركي، فقد كانت نهاية الاستعمار في تلك المنطقة، وحملت قيم تحرير تجارة العبيد، وكيفية وحدة الأوطان وبنائها، ثم الثورة الفرنسية، وكانت شاملة على المستوى الفكري والاقتصادي والاجتماعي والسياسي، وأصبحت نموذجاً للثورات حول العالم بما حملته من قيم وأخلاقيات وفكر تطوري وتنويري.
وتلك الأحداث وما سبقها من نهضة أوروبية وعصر التنوير والإصلاح الديني قد وضعت الأسس لمتغيرات لاحقة، خاصة في المجالين الفكري العلماني والليبرالي اللذين وضعا حداً لتدخل الكنيسة في سياسة تلك الدول، والذي ساد في العصور الوسطى الأوروبية، وامتد في بعض الدول إلى بداية العصر الحديث. إن كل التطورات اللاحقة التي شهدتها أوروبا والعالم في القرون اللاحقة هي نتيجة لتلك الأحداث التي كانت الحداثة على رأسها وفي مقدمتها، وأوروبا اليوم ودول عديدة في العالم مدينة لذلك الفكر الحداثي الذي بدأ وساد نهجاً جديداً وصحيحاً للتقدم الذي شهدته أوروبا ومن ثم العالم. والأمور لم تقف عند ذلك الحد ولا عند الأحداث التي وقعت في النصف الثاني من القرن الثامن عشر بل هناك تحولات ومتغيرات شهدتها القرون التالية؛ التاسع عشر والعشرون، تستحق التوقف عندها أيضاً وعندما نركز على أوروبا فلأنها الأكثر تطوراً والأقدم ولأن حضورها الفكري والمادي كان مؤثرا في واقعنا العربي.ولابد هنا من التوقف عند مسألة الاستعمار الذي مر تاريخياً بمرحلتين؛ الأولى قبل الثورة الصناعية في أوروبا كنتيجة للكشوف الجغرافية التي كانت أهدافها الوصول إلى الذهب في الغرب والتوابل في الشرق، ثم المرحلة الثانية بعد الثورة الصناعية التي كانت متطلباتها الحصول على المواد الخام للصناعة وفتح أسواق للمنتجات المصنعة، والحصول على اليد العاملة الرخيصة، ودخول العصر الصناعي جعل أوروبا والعالم يخرج من العصر الزراعي الذي شهد تجارة الرقيق الغربية. إن الاستعمار كان حاجة ملحة للدول الأوروبية ترتب عليها بناء أساطيل بحرية تجارية وقوة عسكرية واحتلال وسيطرة على مناطق شاسعة من العالم، وترتب على ذلك ظلمٌ وقمعٌ واستنزافٌ للثروات وتسلطٌ خلقت حالة من الرفض بعد الشعور بالظلم لتوجد حركات تحريرية في المناطق التي تم استعمارها. وللحقيقة لابد من القول إن الدول الاستعمارية لم تنقل إلى المستعمرات إيجابيات التطور لديها، وعلى الرغم من ذلك فإن المستعمرات قد استفادت من بعض التطور في الدول الاستعمارية رغماً عنها، مثل إقامة مشروعات استعمارية استفادت منها المستعمرات، كالموانئ والسكك الحديدية والأحزاب السياسية والدساتير ومشروع حفر قناة السويس وغيرها، ولعل العلاقة البارزة في التطور في أوروبا أو خارجها يرجع اقتصادياً إلى ظهور النفط في القرن التاسع عشر، والتطور العلمي منذ نهاية ذلك القرن، ثم الثورة التكنولوجية المعاصرة منذ منتصف القرن العشرين، وقد تكون كذلك الثورة المعلوماتية والاتصالات والعولمة منذ عقود، ويمكن الاستنتاج من دراسة التجربة الأوروبية أن أوروبا قد تطورت بالعلمانية، وأصبحت دولها نموذجاً لتجارب إنسانية لدول أخرى في العالم إذا أرادت أن تتطور اقتصادياً وسياسياً وفكرياً وعلمياً واجتماعياً.
مقالات
كيف ولماذا تطورت أوروبا؟
24-11-2015