تمثل «ممر الصفصاف} تجربة خاصة، وفارقة لديّ... هذا ما صرحت به رغم ما سبقها من أعمال قيمة لك، فلماذا؟

Ad

«ممر الصفصاف» آخر رواية أصدرتها عام 2014 بعد مجموعة من الأعمال بدأت منذ منتصف السبعينيات واتسمت بالتجريب، أي تحللها من مقتضيات ومعايير الجنس الأدبي، فكانت كتابة جانحة ترجح آفق الخيال أكثر من عنايتها بالواقع، وتعطي امتدادات وزخماً لما هو باطني وشعوري أكثر من عنايتها بما هو مادي وحسي.

 في حين أن التجربة التي تراكمت لديَّ من كتاباتي ومن تفاعلي مع الروايات في مدارسها المختلفة تعود بالكاتب إلى أن الرواية لا بد من أن ترتبط بمنهلها الواقعي الأصلي وبمقتضياتها وشروطها المولدة لها، وهنا أعني بكلمة {الرواية} الواقعية بصورتها لدى أعمال غوستاف فلوبير، وتطورت في ما بعد بجماليات وشعريات مختلفة.

 في {ممر الصفصاف} أزعم أنني وضعت يدي على شكل كنت أبحث عنه منذ زمن طويل، يزاوج بين الواقع الحسي وبين الشعري والاستبطاني والاستعاري في آن.

كيف تجمع بين كتابة القصة والرواية وبين الشعر والنقد، وكيف تخرج من جنس إلى آخر؟

لكل جنس أدبي مقتضياته. القصة القصيرة شيء نختطفه من الممر. أذكر لك أمراً: كنت في القاهرة منذ وقت قصير وبصدد كتابة قصة قصيرة لم تخطر لي على بال. كنت أمر في شارع عماد الدين بوسط البلد، ووجدت عمّالاً ينظفون واجهة أحد المحلات، وأخرجوا {المانيكانات} الموجودة في الواجهة، ونظفوها باستثناء مانيكان واحدة في زاوية بمفردها. استغربت، لماذا هذه المانيكان منبوذة؟ تشعر بزميلاتها يعُتنى بها. من هنا انطلقت إلى فكرة قصة قصيرة حول شخصية هذه المانيكان.هي جماد ولكنها تتحول إلى شيء حي في الحكاية، وهذه القصة القصيرة تصير لقطة عابرة. أما الرواية فعالم آخر يتهيأ الكاتب له، ويستحضر أفكاره وشخوصه، ويغذيه بالأفكار والمعاني والأحاسيس في مشروع طويل. ولكن شخصياً، أعتبر أن المهارة الفنية للقصة القصيرة هي منبرها الأول، لذلك أختبر نفسي كل حين بالعودة إليها، مثل النجار الذي يريد كل فترة أن يدقق في أدواته وخبرته وفنيته، لأن القصة القصيرة لا تسمح بالزيادة ولا النقصان بل تبنُى على الدقة والتجريب، بينما تجد في نص الرواية مساحة واسعة للمناورة.

 

كيف ترى السيل العارم من الإصدارات الروائية في السنوات الأخيرة؟

لدينا حالياً سير ذاتية خفية لأفراد يحكون حياتهم من دون أية حبكة أو تقارير سياسية منبرية خطابية. أما الرواية كتركيب أو تجربة مكتنزة عن حيوات ومصائر فهي قليلة، وإذا نظرنا إلى الروايات الكثيرة الصادرة هذا العام فنجد رواية مكاوي سعيد {إن تحبك جيهان} شديدة الخصوصية، ظهر إلى جانبها كم كبير من روايات، لكنها استوعبت قواعد النوع. هي رواية كاتب وفنان يعرف عمله وماهية الرواية ويكتب بمقتضياته الفنية والشرائح الاجتماعية الجديرة أن تكون ضمنها، لأن الرواية لا يمكن أن تُكتب إلا لشريحة اجتماعية محددة برؤية ومنظور مدقق لمصائر لها مسار تبدأ منه وتنتهي أو تنفتح عليه. أما أن تتحوّل الرواية إلى سجلات خطابية وعظية أو بوح ذاتي فهذه نصوص عائمة، وأرى أن الكتّاب الصغار، بمعنى ضعاف الموهبة، هم الذين يلحّون على الانفتاح على الأجناس الأخرى.

دواوين

بعد إصدارك ثلاثة دواوين شعرية، كيف تصف علاقتك بالقصيدة وإلى أي مدى تقود مغامرتك الشعرية معها؟

لست شاعراً محترفاً. ثمة شخصية {مارسو} الشهيرة في رواية {الغريب} لألبير كامو، الذي قتل العربي في الشاطئ وقال إنه توفي بسبب ضربة شمس تركزت على رأسه، ولكنه في الحقيقة أخرج المسدس وقتل هذا الشخص. كذلك القصيدة بالنسبة إلي تأتيني كضربة الشمس، نوع من الامتلاء من العنفوان، لذلك أصدرت ثلاثة دواوين. ثم إنني في نصوصي القصصية والروائية أضع مقاطع شعرية. لو أردت أن أكون مثل شباب هذه الأيام لاستخرجت هذه المقاطع وأصدرتها في ديوان، ولكني أدمج النص الشعري ضمن سياق الرواية أو القصة.

كيف تتجلّى صورة المشهد الأدبي العربي عموماً والمغربي خصوصاً؟

المشهد الأدبي المغربي متعدد وغني، فيه أسماء وكتابات راسخة، يضم أعلاماً ورائدين خارج أي نقاش، نصوصهم تُدرس بمعنى أنها أصبحت كلاسيكية، وثمة أقلام صاعدة، وحركة مهمة في المغرب، كما أن وزارة الثقافة تتعهّد بدعم طباعة كثير من الأعمال وتشجيع المواهب، ومن ثم هو مشهد حيوي ومتحرك وفيه كثير من ملامح التجديد. أما المشهد العربي ككل فأصبح من الصعب أن نتحدّث عن مشهد عربي واحد، لأن العالم العربي ذاته تفكك، وفي حالة انهيار. الأدب جزء من المجتمع وثمة انفجار داخلي وآخر خارجي، وثمة تخريب مقصود ومنظم لما كان يُسمى بالعالم العربي وسيستمر بمنهجية وخطط مدروسة، ليس لتفكيك العالم العربي فحسب، بل كل دولة وشعب، لإعادة العرب إلى عشائرهم وقبائلهم، وضرب فكرة الدولة الوطنية وكل البنى الحديثة التي ظهرت في مرحلة الاستقلالات الوطنية، فأي مشهد أدبي يمكن أن نتحدث عنه في ظل هذه الظروف؟

 فضلاً عن أن ما يُكتب الآن هي نصوص مبعثرة، وفردية أكثر من كونها نصوصاً مرتبطة بمشروع اجتماعي، كما كانت رواية نجيب محفوظ حين كانت الرؤية واضحة. والجوائز لا ترمم من هذا الواقع، على العكس الجوائز قد تكون مساحيق تجمّل من وجه الواقع، لذلك الحديث عن وضع ثقافي في العالم لم يعد ممكناً، بالمثل كما كنا نتحدث عن الأمة العربية، وأصبح كل بلد منشغلاً بذاته.

هل أصبحت الكتابة باللغة الفرنسية بوابة الشهرة للكتاب المغاربة؟

هذا طرح غير سليم، المغاربة والجزائريون والتونسيون واللبنانيون والمصريون أيضاً لديهم أنُاس يكتبون وينشرون بلغات أجنبية، وهؤلاء بحكم المرحلة الاستعمارية ووجود المدرسة الفرنسية أو الإسبانية تعلموا في هذه المدارس، وأصبحت الفرنسية لغة ثقافتهم وتعبيرهم: فلماذا نخوّنهم أو ندينهم. {البير قصيري} كاتب مصري انتقل إلى فرنسا، وكتب بالفرنسية، فهل نقول إنه ليس مصرياً أو ذهب إلى فرنسا ليبحث عن الشهرة؟ هذا مسار حياته الشخصية. في المغرب لدينا كتاب يكتبون بالفرنسية من دون البحث عن شهرة، ولكنهم تعلموا وأجادوا فيها، وعلينا أن نتخلّص من هذه العقدة. العالم الآن متعدد اللغات والأساليب. ثمة قيم معينة هي التي يجب أن نتساءل حولها، منها: عما يعبر الكاتب؟ وما هي روح كتابته وارتباطه بأمته وشعبه. ومن المهم أن يكون هؤلاء الكتاب مقترنين بمجتمعهم وتاريخهم.

لماذا لم يفز شاعر عربي بجائزة {نوبل}، وهل خاصمت الأدب العربي عموماً بعد نجيب محفوظ؟

لدى  جائزة {نوبل} لجان، هي جائزة منظمة، ونحن لسنا كذلك، وعملية الترجمة أساسية في  هذا المجال. ثمة خزانة بمؤسسة {نوبل} للأعمال المترجمة، هل نترجم نحن بشكل منهجي ومنظم أعمال أدبائنا الكبار؟ هل نتابع بجدية؟ على العكس، لدينا صراعات وأحقاد... نحن ندمر أنفسنا. أرى ثلاثة مرشحين لـ {نوبل} كانوا في القائمة العربية للجائزة، هم الراحل عبد الرحمن منيف، وهو صاحب عالم روائي شاسع ومركب وملحمي، وكان يستحق الجائزة بعد نجيب محفوظ، والكاتب المثابر جمال الغيطاني، والذي اعتُرف به في أوساط أدبية أجنبية عدة، ومع ذلك واجهته الأحقاد والإشاعات، وعندنا مرشح تقادم الآن في ترشيحه هو أدونيس. كذلك ثمة أدعياء وهم أحرار في أن يدعوا ما يشاؤون. هل أنشأنا دار نشر واحدة تقول إن هذا باحث اقتصادي سنتابعه ونشجعه لينال الجائزة.. إلخ؟ نحن نغالط أنفسنا كثيراً.