البارحة تسوّقتُ من بائع سمكٍ أرتاده عادةً كلَّ أسبوع. ومع السمكِ انتخبتُ شيئاً من الخضراوات، ودفعتُ المبلغ المطلوب. حين انتهى البائعُ من تنظيف السمك، تناولته وخطوتُ خارجاً. في الليل، وتحت غطاء النوم تذكرتُ، وأنا أستعيدُ أحداث اليوم، أني التقطتُ كيس السمك وحده، ونسيتُ كيس الخضراوات. في صباح اليوم التالي قررت زيارةَ بائع السمك، الذي يبعد عن بيتي قرابةَ عشرين دقيقة في الحافلة العمومية. قطعت الحافلة بنا أربعةَ مواقفَ ثم توقفت، وسمعنا السائقَ يعتذر إلينا عن أن الحافلة ستتوقف هنا ولن تواصل، لأن الشوارعَ التالية مكرسةٌ للماراثون.
طبعاً، باعتباري بريطانيّاً بالضيافة، أو بالإضافة، لا أتابع أخبار حركة الشوارع في الإنترنت، ولا في محطاتِ الراديو، أو الصحافة المحلية. الإنكليزي لا يغادر البيتَ صباحاً، دون أن يكون على دراية بحركة الأندرغراوند، والحافلات، ومواطنِ الزِّحام، وعلله. معرفتُه تسهّل لديه الوسائلَ والطرق البديلة، فلا يكون ضحيةً سهلةً لوطأةِ ردود الأفعال النفسية والعصبية. هذه الوطأة التي نُذرت لها كعربي، من أول يوم وصولي إلى لندن قبل قرابة ثلث قرن. حين سمعتُ بيان السائقِ عبستُ وتولّيت، وبدأتُ خطبتي العصبية الخرساء داخل النفس، أُنكر على الإنكليز فسادَ الذوق هذا، "هذا لا يصح أبداً". شرعتُ أقول بعصبية، "تتوقف مئاتُ الباصات في حيّ إيلنغ الواسع، وآلاف البشر يُرمَون على أقدامهم، بذريعةٍ ليستْ، حتى لو اتسع أفقُ أحدنا إلى المدى الذي يطرب له الإنكليز، مقنعةً، أو عقليةً في أحسن حالاتها. هذا لا يصحّ أبداً". ولأنّ النهارَ كان مُشمساً، حلوَ الهواء، حاولتُ أن أحصّنَ النفس ضدّ الرضا، وأمنعها عن الاستجابة السهلة اليسيرة لنقاهة النهار: "هذا لا يصحّ!" قلت وكأني أقاوم ضعفاً داخلياً، يُمليه عليّ الحِلمُ ورحابةُ النفس، "أبداً لا يصحُّ، إنني بالكاد أحتمل السير، إلا بحذر السلاحف. ثم قلْ لي، بأي منطق عقلي يمكن أن يكون الماراثون رياضةَ شوارع، في مدينة مكتظة كمدينة لندن؟ في شوارع ملوّثة كشوارع لندن، وهذه حقيقةٌ لا يُنكرها أكثرُ عشاق هذه المدينة تطرّفاً. مع أن النسبةَ الكبرى من مساحة المملكة المتحدة يحتلُّها الريف. وهل ألْيقُ من الريف الإنكليزي برياضةٍ كرياضةِ الماراثون؟" في هذه اللحظة تذكرتُ بعض زياراتي للريف، فوجدتُني أتنفس الصعداء: "هواءُ الريف، وسحرُ مناظره!" وكدتُ أبتسمُ، وينشرح صدري، لولا حرصي على موقفي الغاضبِ والعادل. "هذا لا يصح، بالتأكيد". بعد مسير قرابةِ خمس دقائقَ رأيت، عبرَ تقاطع طريقين، طلعةَ الماراثون: رجال وإناث، شبانٌ وكهولٌ، أجناسٌ شتّى من غربيين، وهنودٍ، وعربٍ، وأتراك، وإيرانيين، وصينيين، ولاتين، وأخلاطٍ من الصعب تمييز أجناسها. تراهم، وتُصغي إلى وقع هرولتهم، كُتلةً واحدة، وكأنك ترى أوركسترا ملونة، ولك أن تصغي إلى كلِّ آلةٍ موسيقية على انفراد: العضلاتُ النافرةُ المعروقة، والوجوهُ التي تتطلّع للتحليق. الجميعُ أنصافُ عراة، بلباسِ الرياضة ذي الألوان. أحسستُ أن المشهدَ قد أخذني على حين غِرّة، وأن استجابتي كانت خريفيةً، مبتلّةً بندى نشوةٍ لا يمكن كبحها، ومشوبةً بأسى غامض. النشوةُ وليدةُ احتفاء إنساني بالجموع، ولعل الأسى وليدُ مشاعرِ التقصير والعجز! فأحاط بي استحياءٌ من غلاظة النفس. أو لعله استحياءٌ من مخاتلةِ العقل الذي كنت أطمع به ساعياً إلى الحكمة، وإذا به يسعى إلى حرف الحقيقةِ عن مكانها، بفعل مصلحةٍ أنانية رخيصة، وردةِ فعلٍ عابرة. وردود الأفعال سريعةُ الزوال. وعلى المدى، وأنا أتمهّل الخطى خوفَ الإجهاد، أرى الناس في الخليط ذاته بلافتاتهم، على الأرصفةِ، ومن أبواب وشرفاتِ البيوت، وهي تصفّقُ وتهتف مشجعةً محتفية. ورأيتُ، على خلاف ضَلالي العقلي، أن المدينةَ والبشرَ فيها أحوجُ إلى مشاركة هذا الفيض الجسدي والروحي لأخيهم الانسان، من أشجارِ الريفِ وطيوره. فالحكمةُ تقول لي إن الطبيعةَ جافيةٌ، وغيرُ مبالية. وقفتُ، لا لأستريح هذه المرة، بل لأهتفَ وأصفقَ مع الجمهور: "مرحى لمسرّاتكم. فالحياةُ لمن عانقَ مسرّاتِها. كلُّ عيدِ أضحى وأنتم بخير". كنت تذكرت أن اليوم كان آخر أيام الأضحى، فانتابني أسىً تدفق من خزين ذاكرتي. وبفعل هذا الأسى ذاته عاودتُ الهتاف: "مرحى لمسرّاتكم. مرحى لمسرّاتكم".
توابل - ثقافات
ماراثون
01-10-2015