في أعقاب الإرهاب الذي استهدف مسجد الإمام الصادق في الكويت، والذي قام به شاب أتى من خارجها فأودى بحياة 27 شهيداً وأصاب 227 جريحاً، تساءل الكاتب والإعلامي السعودي، دَاوُدَ الشريان بحيرة: من نزع مشاعر الإنسانية من وجدان هذا الشاب وأقرانه، وعلى هذا النحو من التوحش والقسوة؟! وأي فكر يجعل شاباً في العشرين من عمره، يتحول إلى إرهابي وقاتل محترف؟!

Ad

أجاب الكاتب: إنه الانتقام الذي حرك هذا الشاب المغرر به، والتحريض الذي يسمعه منذ صغره ضد مواطنيه الشيعة، فهؤلاء الشباب الذين يسمعون كلاماً يكفر مواطنيهم الشيعة على مدى سنوات طفولتهم وشبابهم، يكونون مؤهلين للتجنيد من قبل التنظيمات الإرهابية وأداة طيعة لتنفيذ مخططاتها، وهذا ما منعه من مجرد التفكير في التراجع عن جريمته، وجعله يتصرف على طريقة "المنتقم الأعمى" ونحن السبب، لقد تغافلنا لسنوات عن أولئك الذين هدموا جدار المواطنة في وجدان شبابنا، وقتلوا فيهم فكرة التعايش، فضلاً عن الإنسانية.

 لقد أحسن الكاتب تشخيص الداء ووضع يده على أس الوباء، إنه "مرض الكراهية" الذي يجعل شاباً في عمر الزهور، لا يشكو مظلمة أو فاقة أو بطالة، ولا يعاني إحباطاً أو قهراً، بمثابة قنبلة بشرية رخيصة لا يقيم وزناً للحياة ولا يراعي حرمة لشهر معظم، ولا يأبه بقدسية بيت الله تعالى، فهذا الشيطان الداعشي انطلق من الرياض بالطائرة إلى البحرين، حيث مكث في المطار (3) ساعات، ومن ثم إلى الكويت فجراً، وكانت لديه الساعات الطويلة ليراجع نفسه ويفكر في مصيره ومصير الآخرين، لكنه لم يفكر ولم يتردد، وتسلل إلى المسجد والمصلون ساجدون، وفجرهم!

هل هناك جرم أعظم من قتل مصلين صائمين، وفي بيت الله تعالى، وفي شهر معظم، وفي يوم جمعة؟! هذا الذي قال تعالى فيه وفي أمثاله "وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا"، وتوعدهم بالخزي والعذاب "لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ".  لقد ارتكب جميع الموبقات وداس كل الثوابت واخترق كل المحرمات، إذا لم تكن بيوت الله تعالى ملاذاً آمناً، فأين يأمن الناس كما قال بحق مأمون فندي؟!

ألهذا الدرك تصل قسوة القلوب وموت الضمير وبلادة الإحساس؟! سبحانك ربي القائل "ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ...". دعونا نتساءل كما تساءل الكاتب: ما العوامل التي حولت هذا الشاب إلى كائن معدوم الضمير، متحجر القلب، وحشي الطبع، عدواني السلوك، تحركه غرائز الحقد والكراهية والانتقام الأعمى؟!

 المحللون للإرهاب منهم من يرجع الإرهاب إلى عوامل اقتصادية واجتماعية كالفقر والحرمان والبطالة والإحباط والجهل والأمية، ومعظم هؤلاء من أصحاب الفكر اليساري، أما أصحاب الفكر الديمقراطي فيعللون الإرهاب بغياب الديمقراطية وتضييق الحريات والقمع والتسلط، لكن كل الدراسات المتخصصة للظاهرة الإرهابية، فنّدت هذه العوامل، وثبت أن معدلات الفقر أو انخفاض مستوى التعليم والعوامل السياسية والاقتصادية الأخرى، ليست عوامل أساسية مؤثرة في الظاهرة الإرهابية، فبيئات اجتماعية في العديد من دول العالم، تعاني الفقر والجهل والظلم والتسلط لكنها لم تنتج إرهابيين مفجرين، كما هو حاصل عندنا! يتقربون إلى الله تعالى بقطع رؤوس البشر وحرقهم والمجازر الجماعية، ويتباهون بتفجير المساجد والمصلين وسبي النساء واغتصابهن!

إنها كراهية الآخر يتجرعها الطفل في حاضنته الأولى (البيت) ليأتي المعلم في المدرسة (الحاضنة الثانية) ليرسخها، ليقوم الشيخ في الجامع فيعززها، وتأتي الحاضنة الاجتماعية لتزيدها رسوخاً، في المدرسة، فيقوم المعلم بتغذية مشاعر الكراهية ضد الآخر الديني والمذهبي عبر عقيدة "الولاء والبراء" المؤسسة على وجوب بغض الآخر الديني والمذهبي- وجوبا دينيا- فتشحن بها عقله ويتشربها وجدانه ويتطبع عليها سلوكه، فينشأ شاباً متطرفاً يكره الآخر حتى الموت!

هذه الكراهية هي التي جعلت هذا الشاب التونسي- صاحب السوابق الأخلاقية- يفجر السياح في "سوسة" متباهيا "إذا كان حب الجهاد جريمة فليشهد العالم أنني مجرم"، وهي الدافع للإرهابية (شبح الريم) لقتل مدرسة أميركية ومحاولة تفجير شقة طبيب أميركي في أبوظبي، وهي وراء منفذ إرهاب "ليون" الذي قطع رأس رب عمله وعلقه على السياج وأرسل صورته!

إن مولدات الكراهية في مجتمعاتنا عديدة: التربية غير السوية، والتعليم التعصبي، والخطاب التكفيري، والموروث الثقافي التعصبي، والتشريع التمييزي، والسياسات الإقصائية لبعض مكونات المجتمع، والقنوات والمواقع المحرضة، والتي أثمرت في النهاية غلواً في الكراهية، فطالت المساجد بالتفجير، واستباحت دماء المصلين الأبرياء.

ختاماً: ما أحوجنا في هذا الشهر الفضيل، شهر البر والمودة والتراحم والتقارب والتواصل، إلى إحياء الجهود القيمة لإمام التقريب بين المذاهب الإسلامية، الشيخ شلتوت، رحمه الله تعالى، وبخاصة في فتواه الشهيرة "إن مذهب الجعفرية المعروف بمذهب- الشيعة الإمامية الاثني عشرية- مذهب يحوز التعبد به شرعاً، كسائر مذاهب أهل السنة، فينبغي للمسلمين أن يعرفوا ذلك، وأن يتخلصوا من العصبية بغير الحق لمذاهب معينة".

هذه الفتوى الراقية إنسانياً ودينياً هي ما نحن بحاجة إليه في هذه الأيام العصيبة المريرة التي استشرى فيها الغلو الطائفي، حد تمزيق النسيج المجتمعي وتهديد الوحدة الوطنية، وهز استقرار المجتمعات العربية وأمنها، وعلينا تدريس هذه الفتوى في كل مدارسنا وجامعاتنا، وعلى مؤسساتنا الدينية تبنيها وبثها ونشرها، وذلك من أجل بناء "ثقافة التسامح" لحماية مستقبل أجيالنا.

* كاتب قطري